"تُدار البيوت بالودِّ لا بالندّ، وتسير مراكبها بالاحترام المتبادل لا بالهجر والتأديب، ويستمرُ قوامها بالتغافل والتنازل لا بالتناطح والكبر، وتعيشُ على الحبِّ والتسامح لا على الإهمال والعناد، وتكبُر بالكلمة الحلوة والتضحية لا بالتجاهل والأنانية!"
لستُ مُتسولاً، لا أحَد يُدرك أنَّ تلك الرداءاتِ العتيقةِ هيَ هويَّتي الَّذي سأعَّرفُ ذاتي بها عندما أبلغُ الوُجهة، ولكنَّ الأمرَ وحسب أنَّ الزَّمن قد حلَّ عليَّ مراتٍ عديدةٍ في سجنِ الإنتظَارِ، دونَ أن أعرفَ كيفَ هيَ العالمَ خارجَ محطةِ القطَار، لا أعرفُ عنها سوى من الأقاويلِ والقِصَصَ الَّتي يَسردها المُسَافرينَ إليَّ، ثمِّة مسافرينَ يَشعرونَ بالفَراغِ، وآخرونَ يَسْردون لكل من يُصادِفهم بما فيهم عَامِلُ النظَافةِ، وهُنَالِك من يَتَبَهرج بشأنِ زيارتِه لكلُّ وجهاتِ العالمِ.
غلَبني اليَأسَ مراتٍ عديدةٍ، علمْتُ أن القطارَ لن يَأتي بالصَّلواتِ، فَقدْ صَليتُ كثيرًا حتَّى نَزَف فَمي، إنمَا بالسَّعيَ أو بالحظِّ أو بالطُّرقِ المُلتَويةِ، ولكنَّني مُقيدٌ من السَّعي حسْبَ ما أرى، لأن بِطاقاتي مُنتهية الصَّلاحيَةِ، وعُملتي قديمة، وإلى حدٍ ما، ممنوعُ على المسافِرَ من العمَلِ في محطةٍ، لأنَّهُ يتطلَّبُ الكثيرَ من الشُروطِ المُستعصيَةِ.
فكْرتُ مراراً أن أُلقِيَ بجَسدي على سِكَّةِ القطار، وحاولتُ كثيرًا بصراحة، ثمَّ تراجعتُ في اللحظاتِ الأخيرة، خشيتُ أنَّ القطَار الذَي يدهسُ جَسَديَ اليَائسَ هو قِطَاري المَصيري.
ثمَّ تسائلتْ! هل فاتَ الآوان؟ لماذا أنَا مُتمَسِّكٌ بالحياةِ لهذهِ الدَرجة؟ لما لا أصْنَعُ حياةً داخِل المَحطَة؟ صَنعتُ الكثيرَ من الحياةِ وهيَ حياةً وهميَّةً غير مَلموسَةٍ، ولكنها أفضَلُ من العَدمِ! لأنَّ الإنتظارَ يُزهقُ روحي تدريجيًا، والصَبْر الطويل يُفْقِدُ الصَوابَ ويصيبُ صاحِبهِ بالجُنونِ، لذا تماشيًا مع مقولةِ أنطون تشيخوف: "عِنْدما لا يَحيا المَرءِ حياةً حقيقيَّة، فإنَّهُ يَحيَا في السَّراب، ولا يَزَال أفضَلَ من اللاشَيء."
إنَّني أحيا على التَأمُّلِ، ومَخيَّلتي مُستعينًا برواياتِ الآخرينَ، والمُوسيقى الَّتي أقتنيها، وأكْتُب كثيرًا لأنَّ ما من مُستمِعٍ، فإنَّني أفضِّلُ الإستمَاعَ، ولا أحادِثْ! وأخبِرُ المَسافِرَ بإنني بخيرٍ وحسْب. كلُّ شَيءٍ في المحطة مادةً خامِّة للتأمُّلِ والتخيُّلِ، فأحيكُ حبكةً قصصيَّة وأحيانًا مَلحميَّة في مَخيلَّتي، وأنا بطلُ هذهِ القصَّة.
أحْتَرمت الإنتظَار، وأحببتُ الألمَ النَّابع عنهُ لأنَّهُ يَمنحُ التهذيبَ وتَقديرَ نظيرهُ السَّعادة، وكَبَحتُ مشاعري، وعُدتُ إلى صَلواتِي ليسَت لغايةِ قدومِ القِطَار، بل غايةً في البَقاءِ سَاكِنًا وتجنُّبًا للجنونِ، في داخلَي أنينٌ لا يعرفُ الحدود. ولم يَعُد ثمَّة ما يُثيرُ ضَجري بعدَ الآن. وأخشى أنْ أعتادَ الإنتظَار، بحيثُ إنْ وصَلَ قِطَاري أتردَّدُ بالصُّعود، لأنَّ حدودُ معرفَتي عنِ الحياةِ محصورٌ داخِلَ المحطَّة.
لم يكن هناك أحد. بدا وكأنهم جميعا خرجوا. لم أتحقق من الغرف. عملت قهوة، وتمددت على أريكة في الصالة. التليفزيون كان مكتوما، لكني سمعت مقدم برامج مصري يعلن أن الناجتس فازوا ببطولة كرة السلة الأمريكية، لأول مرة في تاريخهم، وكان ثمة من يحتفل. اليوم فارغ. لم أكن أرغب في أي شيء وأحسست أنه يمكنني أن أبقى هكذا حتى يعودوا. رن التليفون وكانت أمي، لامتني أني لا أزورهم. قلت إزاي؟ أنا هنا على طول. قالت أني فعلت ما طالما توقعته مني وأنني لن أصبح أبدا الابن الطيب الذي كنته في الصور. حاولت تهدئتها، أخبرتها أني قادم في الحال. خرجت من البيت. لم أعرف إلى أين أذهب.
مرت بي خالة، أردت تخطيها سريعا لكنها أوقفتني. أخرجت قطعة لحم حمراء من تحت خمارها، اسم جديد في العائلة. كنت مبسوطا، بحق. وقلت مبروك، ما اسمها؟ قالت لي إنه ولد، ليس بنت. مهما صححت لي وقعت في الخطأ مرة أخرى. سألتني إن كنت ذاهبا إلى الشغل، ولِم تركتُ باب البيت مفتوحا للّصوص. قلت ذاهب للمدينة، عندي موعد. كنت خجلا لأني حافي القدمين. حاولت أن ألمس جبهة الطفل بإصبعي، ضحكت وخبأته في خمارها.
لم يتحرك الميكروباص، لكن السائق قال حمد الله على السلامة. سألته وصلنا؟ قال حمد الله على السلامة. كان مألوفا، وكذلك المدينة، التي لم تفرق شيئا عن القرية، سوى الحركة السريعة وسيارات الشرطة. المقاهي كانت مغلقة، على الأقل في وجهي. خلف الزجاج كان أصحابي، يتكلمون ويضحكون؛ أدير المقبض لأدخل في أحضانهم، لكن الباب لا ينفتح، أنادي أسماءهم اسما اسما، لكنهم يلتفتون في اتجاه عكسي. بكيت، لكن جلبة ورائي أسكتتني. كان عبد القادر (أصغرنا كلنا، أصغرنا للأبد) وشيماء بنت عمتي، بالضبط مثل آخر مرة رأيتها في شتاء من عشر سنوات مضت، في مثل عمري الآن تقريبا. قلت أنا ضيعت وقت��، ضيعت كل وقتي والله، توسلت إليهم أن يأخذوني معهم، لأني لا أعرف أحدا هنا وأخاف أن أوقظ الوحش. مشيت خلفهم. الطريق تحفه الأشجار، رغم أنه لم يعد كذلك في الحقيقة. الأسفلت كان باردا ورطبا، أخذت أغني، خلينا لا نوقظ الوحش، خلينا لا نوقظ الوحش. كانت أسعد الأوقات، وكانا يلتفتان تجاهي على فترات.
استيقظت. لم يكن هناك أحد. بدا أنهم جميعا خرجوا. لم أتحقق من الغرف. عملت قهوة، وتمددت على أريكة في الصالة. رن التليفون، قلت للصوت على الناحية الأخرى خلينا لا نوقظ الوحش. قال إيه؟ قلت صباح الخير. كنا بعد الظهر.
عند البيت القديم، أنا وأمي أمام عشش الفراخ الفارغة، أتطلع إلى شجرتي الجوافة واللارنج وقد أقحلتا وتضائل حجمهما. وجدت نفسي حافيا على الأرض وقد تعفرت الشوارع وامتلأت بأعواد الحطب الناشف الساقط من الأشجار. أبي في الشقة في الدور الرابع، أفكر أن أصعد إليه بحثا عن شبشب لأتجول به في المكان، أتكاسل. وأبدأ تجوالي حافيا، الأشواك تحت قدمي تنخزني لكني لا أهتم. كنت أطوف في الشوارع مرتكزا على فأس كبيرة، أنقلها معي في كل خطوة كالعكاز. أنظر في الشوارع والناس، لا الوجوه هي الوجوه ولا الملامح هي الملامح. أمشي في اتجاه الأرض التي كنا نزرعها قديما، وقد تحولت إلى ملعب خماسي، واقتلعت شجرة الموز التي زرعتها بنفسي.
ريح عاتية، شديدة الهبوب، مقلقة للأغصان، مثيرة للأتربة. أعلم أنك لن تحبها ولن تستطيب طول مكثها وقلقلتها النوافذ والأبواب!
كلما سرتُ قرب الأشجار الكثيفة وتحتها وقت هبوب الريح أدركت أهميتها وضرورتها، تنظف الأشجار مما مات في قلبها وعلى أغصانها، تثير السحاب، وتأتي بالغيث!
لذلك؛ لا تحزن؛ فكل ريح هبت في حياتك مذرّية أحلامك أو مبددة آمالك لم تأت لذلك أصلا، بل هي في الحقيقة جاءت لتنفض عن قلبك ما ران عليه من غبار الدنيا، لتوقظ نفسك من وهم طول الأمل، لترقى بروحك إلى السامي من العمل. فلا تنظر إلى ما تسببه من كدر فقط، بل أمعن النظر في ما يتجلى بعد سكونها، وأحسن الفكر ودع عنك التسخط والتحسر والقلق!
من قال أن الدنيا ربيع كلها، ومن قال أنك هنا -مؤقتا- لترى كل ما تهواه نفسك ماثِلًا أمام عينك! أنت خلقت لأمر واحد: للعبادة؛ سَرّك ما أصابك أو ساء، مر بك إعصار أم فيضان أم حل بك الربيع! نجاحك في الثبات رغم كل تقلبات الحياة مع إيمانك بجميل الجزاء وجزيل العطاء هو المراد منك!
من أيقن بهذا سكن واطمأنّ، وهانت الدنيا في عينه مهما قست أيامها وتبددت أحلامها.
"وكانُوا يتواصون في الشَّدائد: إنما هي أيام تمضِي؛ والموعدُ الجنَّة!" ❤