كنت استمع الى مظفر النواب وهو يقول "مو حزن، لكن حرين". عرفتُ هذه القصيدة واستمعت لها عشرات المرات، لكن هذه المرة شعرت بأنه يتحدث بلساني… لا يوجد ما يحزنني، لكني حزين!
قد يُخيّل للبعض ان ما احزن عليه (ترفًا!) فأنا احزن على تلك المُدن التي عشت فيها ومن ثمن عاشت فيَّ، أحزن على غربتي..!
أعيش في بعدٍ منذ ١٧ عامًا، لكنّي افتقد ذلك (الترف) في العيش في بلادٍ تنتمي روحي لها. لا بغداد لي ولا دمشق لي…
وان الوطن، قبل ان يكون وطن، هو الفكرة والحقيقة المطلقة التي لابد ان تراودنا جميعا. وان الافكار، بحكم طبيعتها الفيزيائية، تتجرد من منطق الموت، لذا لن يموت الوطن! انتهى
قضيت ليلة أمس واقفًا في زاوية روحي، أتأمل المشهد عن بعد!
وجدت الغياب! هو العنصر المهيمن الطاغي في هذه الروح!
قد يتع��م المرء من تجاربه ومجريات حياته، لكنني لم أرَ مُعلّمًا ماهرًا كالغياب. ذلك البُعد عَمّا تُحِب الروح وتشتهي هو من هَذّبها، هو الذي جعلها تُنصِف الناس والأماكن التي غابت عنهم. قد يبدو ذلك ايجابيًا، فالروح اكتسبت معرفة قَيّمة. لكن مشكلته الوحيدة هي التوقيت… جاء متأخرًا.
أرى أن على الانسان ان يبقى يقظًا، أن يحذر من الاعتياد على الناس والأماكن والأشياء من حوله، فقد يجعله ذلك يفقد التقدير الذي يستحقوه.
في استثناء نادر الحدوث… لا تسعى للتعلم في هذه الحالة، لا تجعل الغياب يُعلمك! لا تنتظر الغياب لتعطي كل ذي حقٍ حقه.
عذرًا عزيزي القارئ، لم أقصد وضع نفسي في مكان المُعلم الناصح لك، لكنّها مشاركة للأفكار.
قلة الاحلام هي ما تتصف به الليالي التي تتخللها ساعات نومي. وعندما يُأتى بحلم ما الى ذهني فيكون ذلك حدثًا أذكره بدقة! هكذا جرت العادة.
ليلة أمس، كان حلمي يُحاك على مقام النهاوند. مَرَّ الحلم وكأني أستعرض كلّ نغمة تعلمتها على هذا المقام الموسيقي الذي جمع أغلب ذكرياتي القريبة منها والبعيدة. بدأ الحلم وانا استمع إلى صوتِ السيدة أسمهان وهي تجول في ليالي الأنس في ڤينا، ومن ثم انتقل إلى العراق، وتحديدًا عند صوت الست أنوار عبد الوهاب وهي تنهال علينا بجمال "عِد وانا اعِد"، ليستقر في نهاية المطاف عند الست فيروز التي تكتب اسم حبيبها "على الحَور القديم"…
كثيرًا ما أشعر ان الحياة عبارة عن مشاهد سينمائية تكونها المواقف والاماكن والشخصيات التي تتواجد في يومياتنا!
في كل مرة اتجول فيها في بغداد، أشعر كأني أراها للمرة الأولى، كما قالتها الست فيروز، "انا كلما بشوفك، كأني بشوفك لأول مرة، حبيبي..!"
فإن لوقت النداء الى الصلاة يوم الجمعة في بغداد مشهدا يجعلني أعيش روايةً جُسِّدت في فيلم سينمائي أُتقِنَ ليس فقط اخراجه، وإنما أبدع مهندس الصوت الذي خلط فيه ما بين صوت الاذان وصوت مياه دجلة والنوارس من فوقها وبغداد وهي تعج بأصوات من فيها!
كأن لشوارع بغداد القديمة اصوات خاصة كصوت دوران المعالق داخل إستكانة الشاي العراقي -المهّيل- وصوت تراحيب كهول المنطقة ببعضهم البعض من على طاولات المقاهي -الله بالخير حجي.. الله بالخير عيوني.. الله بالخير اغاتي- وصوت الباعة المتجولين وغيرهم، تصبح فجأة بمثابة مؤثراتٍ صوتية تجعل مرورك فيها أشبه بفلم سينمائي غيّر مجرى حياتك بعد مشاهدتك الأولى له.
هذه مشاهدتي لبغداد الى جانب دجلة وجسر الشهداء وروحي التي تسكنها.
مع إنّي لا أميل إلى مشاركة الأفكار السلبية، حيث إن لا ذنب لمن هم بحالة السعادة والفرح أن يقرأوني وأنا أبوح بذلك الحزن، لكنّي أيقنتُ ان لا يمكن للمرء الهرب من الحزن!
وأدركت أنّي لا أكتب ولا أعزف الموسيقى بشغف الا في حالة الحزن هذه!
ويبدو إن نزار قباني صَدَق عندما وصف "أن الأنسان بلا حُزنٍ ذكرى إنسان"