اللهم صلي على محمد عدد كل شيء وملىء كل شيء.
اللهم صلي على محمد عدد ماخلقت وملىء ماخلقت.
اللهم صلي على محمد عدد ما احصى كتابك وملىء ما احصى كتابك.
اللهم صلي على محمد عدد مافي السموات وملىء مافي السموات والأرض.
من يتخيل أن عازف بيانو من العيار الثقيل يمكنه في يوم وليلة أن يتحول لقاتل بالأجر؟ أن يتحول من فنان يتهافت عليه المعجبين لمجرم مطلوب للعدالة؟
لا .. انها ليست مقدمة لرواية غموض وإثارة أو فيلم سينمائي في موسم الصيف، إنها قصة حقيقية لفنان كتب سطور ما تبقي من حياته بالموسيقى والدم وبعض أنفاس الحشيش.
اعتاد عشاق الزمالك في ليالي الخميس أن يتناولوا عشائهم في مطعم Papillon رغبة في سماع موسيقي مناسبة للإعتراف بالحب، لتبادل القبلات بينما الناس نيام، للركض على كورنيش النيل كالأطفال الصغار، رغبة في سماع موسيقى يوسف، يوسف عمار الذي طالته ايادي الحب من خلف موسيقاه فجلس واضعا قدم على قدم ووضع شروطه حتى رأي يداها، اعتدل في جلسته وألقى الشروط في الأرض واعطاها الحب في باقة من الورود، مريم، مريم التي لا يعلم كيف اوقعته ببراءتها، براءتها التي لا تناسب عمرها ولا تناسب رحلته في الحياة.
كانت تذهب للمطعم الفاخر بمفردها وتجلس علي طاولة غير مرئية في الزاوية فقط لتستمع لموسيقاه في هدوء. مريم لم تكن من أهل الزمالك ولا حتى من سكان القاهرة، كانت مريم من سكان مدينة بنها، شابة صغيرة في بداية العشرينيا�� تعلقت بشوارع الزمالك من منشورات فيس بوك الرائجة فقررت الذهاب واختبار السعادة بنفسها ومن ثم المبيت في منزل خالتها بشبرا. كانت فتاة صغيرة الحجم طولها لا يتعدي المائة وسبعة وخمسون سم، بشرة خمرية وعيون بنظرات طفولية وشفاه صغيرة كحبات التوت وحاجبين خفيفين ووجنتان بحمرة الطماطم وحجاب يغطي كل الرأس ولا يسمح لخصلة شعر أن تتدلى هنا او هناك.
ظلت تزور الزمالك في كل ليلة خميس وعندما يغلبها الملل ستذهب لإكتشاف حي جديد، وفي ليلة خميس صيفية كانت موسيقى يوسف تتسلل لشارع الكورنيش عند فتح الباب لدخول كل زبون حالم جائع، استوقفتها الموسيقى وراحت تتأمل واجهة المطعم الفاخرة من الخارج وملابسها العادية التي لا تناسب قيمة المكان ومحفظة اليد التي لم تحوي الكثير فقررت الدخول والإستمتاع بالأمر ومن ثم الندم علي ما فعلت قبل النوم، صعدت ثلاثة درجات فوجدت نفسها في ساحة قصر ملكي وليس مطعم فرنسي فجلست على إحدى الطاولات في استحياء وراحت تراقب عزف يوسف علي البيانو، الرجل يجعلك تترك يد حبيبتك وملعقتك وطعامك وكل ما يشغل رأسك، كان يأخذك في رحلة نحو السماء بعيدا عن البشر والأرض ثم يعيدك ليجعلك تلعن الساعة التي أصبحت فيها رجل بالغ يحمل هموم الدنيا فوق رأسه حتى وإن كنت من أثرى الأثرياء.
تفحصت مريم منيو المطعم المدون باللغة الفرنسية ولم تفهم اي شيء فاستخدمت ترجمة جوجل علي الفور وكتبت قهوة بالحليب وعندما جاء النادل قالت بنبرة صوت عالية غير مفهومة Café au lait فابتسم النادل وسألها avec sucre ou sans ?
فشعرت أن السؤال سيكلفها راتب سبعة شهور فتنحنحت ثم نهضت وابتسمت له في توتر ثم قالت pardon وركضت للخارج فقطب النادل جبينه والتفت نحو يوسف ثم مضى من حيث جاء
ظلت انامل يوسف تنكز مفاتيح البيانو ومن ثم تربت علي رأسها في خفها قبل أن تعنفها في ضربات متسارعة لدقيقتان وفي عز ثورة التعنيف تتوقف أنامله عن العنف ويتم إعلان الهدنة مع الثمانية والثمانون مفتاح بجنودهم البيضاء والسوداء قبل أن تعود الأنامل للقفز فوق الأنامل في رقة، خمسة اصبع هنا، وخمسة هناك، ثم تسبح أنامله على المفاتيح فتغرق السفينة بأكملها، الزبائن لا يشعرون بعشائهم الذي ألتهمته البرودة والقهوة التي لم تعد بطعم القهوة، والعيون الشاردة التي تشاهد في صمت وهيام والعقل الذي أسكره البيانو ولم يسكره الخمر.
مريم حالها كحالهم، أصابها السكر، ركضت للخارج ولكنها ظلت تراقبه من خلف باب المطعم ولولا هيئتها لظنها الزوار متسولة من الطبقة الراقية. نهض الرجل والتفت للخلف فتلقي التحية والتصفيق الحار ونظرات الإعجاب وكل ما يشبع غرور اي فنان، كان يوسف طويل القامة في بداية الثلاثينيات، أعزب لانه يريد الإستمتاع بشبابه قدر الإمكان قبل أن يقع في الحب الذي لم يراه ابدا يتمكن منه، وإعجابه باي فتاة لم يتعدى مرحلة النظرات.
انتهت الفقرة وانتهت كل وصلات الإعجاب والتصفيق فتوجه للخارج وراح بأصابعه يصفف شعره للخلف ثم تصفح هاتفه قليلا قبل أن يمشي نحو سيارته فأعترضته مريم، ظنها معجبة أخرى فاستقبلها بإبتسامة رسمية فارتبكت وظل الكلام يدفع شفاهها للخروج دون أمل فسألها بإبتسامة قلقة
- هل أنت بخير؟
اجابته بنبرة عصبية " لا " .. ثم فتحت له المجال للمرور ورحلت في خطوات سريعة كفأر فر من الموت.