الى صديقتي سامفا ...!!
حينما جمعتنا الصدفه في صالة الترانسيت بمطار فينا... التقينا دون سابق موعد منا ...
كان صوت النداءات يأتي في كل مرة بلغةٍ مختلفه.. لكن بترجمة عربية تعوّدت عليها مراراً ..حتى انني صرت احفظها عن ظهر قلب ... (على السادة المسافرين على متن الرحلة رقم .. المتوجهه الى .... الرجاء التوجه نحو باب المغادرة رقم ...
حركة المسافرين الدؤبة تجعل من الخطى تتسارع بكل اتجاه ... الكل يمعن في شاشات الرحلات ليلحق برحلته... إلا انا ...
كنت وحدي منزوياً في ركن بعيد مستسلماً لقدري المسافر.. مع رحلة الحنين التى لا تنتهي...
هكذا كانت عذاباتي مع استلابات المطارات الرحبه و قصة الملاذات الضائعة.. تائه يركض خلف سراب.. كنت كطائرٍ للرهق يبحث عن وطن ..
قطع حبل تفكيري صرختك لموظف الكاونتر عندما لمحتك تدخلين مسرعه من بوابة الصالة الزجاجية ... وانتي تلوحين له من على البعد انتظر..!
كنتي ترتدين بنطالاً من الجينز الازرق الباهت وقميصاً من الكتان الابيض .. و يلتف حول عنقك وشاحٌ رماديّ اللون تدلدلت اطرافه ببراءة منهكه .. تسحبين خلفك حقيبه صغيرة .. وبيدك الاخرى معطفا للبرد.. كنت وحدي من يمعن فيك ...
كانت مشيتك توحي وكأنكِ احدى أميرات روما القديمة ... ترتسمين بملامح نصف عربية كقلاع اندلسنا المستلبه يطوق جيدك الناصع عقد من الخرز التركوازي..
بدا ذلك الاضطراب و الشحوب بوجهك الجميل غائماً كسحابه تكاد ان تمطر ..
سرعان ما توجهتِ صوب الكاونتر مستفسرة .. دار حديث بينك وبين الموظف لبرهه .. لكنه فاجئك بأن رفع راحة يديه بدلاله لا حيلة لي.. تذمرتي كثيراً .. لم يكن بامكانك اخفاء ضجرك وانفعالك من على بعد المسافة التى تفصلنا.. ولم يكن بامكاني اخفاء سطوة تلك الجاذبية التى تملكتني نحوك في هالةٍ من خبل ..
لكن على ما يبدو ان رحلتك قد تأخرت هي الاخرى مثلي.. أو لعلها لعنة القدر قد لحقت بك ايضاً.. ان اللعنات تطاردنا عندما نعترف بالخواء الكبير الذى نلاحقه .. تختبئ في اقصر سطر او بين طيات تلك التذكرة الوحيدة يحتضنها جواز سفر..
كان موعد اقلاع رحلتي قد تأخر بسبب ظروف الطقس وقد يستغرق ذلك مني انتظارا لثمان ساعات... حسب ما اخبرني موظف الخطوط الجوية..
ثمان ساعات من القلق الممله على مقاعد صالة الانتظار في هذا المنفى..
لكن الشئ الذى لم اكن اعلمه بأن وجودك بنفس الصاله سيكون هو الاخر قدراً اخر لي ..
تركت حقيبتي وتوجهت نحو الكفتريا لجلب كوبٍ من القهوة اتصفح بها ذلك الكتاب الذى قررت ان امضي به جزءاً من وقت الانتظار.. كان الكتاب رواية لغيوم ميسو اسمها (لأني احبك) ..
لم اسمع عنها من قبل ولكنها كانت في واجهة مكتبة المطار عندما اشتريتها...
حاسبت ( الكاشير) وعدت صوب مقعدي .. ويا للحظ رأيتك تختارين مقعدا بجوار مقعدي الفارغ .. كانت ملامح وجهك الطفولي و قصة شعرك الملائكية توحي بانك ذات اصول عربيه .. فكرت ان اشتري لك كوبا من القهوة فالرفقة كثيراً ما تقلل من ملل الإنتظار ..
لكني ترددت.. ترى كيف هي قهوتك ؟ هل ترى تحبينها من غير سكر؟
هل تريدينها سبريسو ..؟ ام مثلي تحبينها تركيه ؟
وصلت الى مقعدي مسرعاً تسبقني لهفة تساؤلاتي.. وجدتك منهمكة بالبحث في حقيبتك اليدوية .. وكأنك تبحثين عن شئٍ فقدته ..
مددت لك كوب القهوة بابتسامه .. ملقياً التحية بأدب .. اذكر اني اخترت أن القي التحية باللغة الإنجليزية ... نظرت إليَّ باندهاش.. وبابتسامه راقتني كثيراً ... لازلت اعلقها كاللوحة الممهورة بالامضاءات بمتحف ذاكرتي..
قلت لي شكرا (ثانكس ) ...وواصلتي بحثك وكأني لا اعنيك .. امسكتُ بالكتاب لاتصفحه .. و مع اول رشفة للقهوة...
فاذا بك تنظرين مرة اخرى إليَّ بدهشة ممزوجه بالحدةِ والغضب.. !
- كيف وصل اليك ؟؟ مشيرة بنظرتك الى الكتاب ..؟!
- ما الذى وصل اليّ ؟ اتقصدين الكتاب ؟ لقد اشتريته من مكتبة المطار.. هل هن��لك من مشكلة يا آنسة ..؟!
- ااه ..اسفه .. (اووه ماي قوود) ..
تملكتني الحيرة لبرهه... لكن سرعان ما رأيتك تتداركين الموقف واخرجتي من بيان طيات معطفك كتاباً يشبه كتابي واشرت اليه .. كان نفس الكتاب...!!
ضحكنا معا لحظتها .. وصرتي تكررين اعتذارك بشئ من الخجل .. الى ان اشرت اليك يكفي لا داعي للاعتذار ..
- لا عليك .... اتمنى ان يكون اختياري للقهوة قد اعجبك..
اومئت برأسك مبتسمه..
- نعم ..انا اعشق القهوة التركية..
واصلت جلوسي صامتاً في قراءة الكتاب ...وتقليب الصفحات.. ثم للحظة انتبهت باندهاش... ونظر كلانا للآخر .. تسمرت النظرات لبرهه ..!! فقد كان كلا كتابانا باللغه العربيه..!!
- انتي عربيه ..؟؟!
- انت عربي..؟!
لحظتها لم نتمالك انفسنا من الضحك ..a
يومها غسلت بضحكي معك كل اجترارات حزن حقائبي ومطاراتي .. كل احتراقات صباحاتي التى اطويها في حزني العميق في هذا العالم الذى يمعن في قهرنا وجعاً...
-الى اين انتِ ذاهبة؟
-الى باريس ..
-حقاً ..؟ انها نفس وجهتي ..
-هل تعمل هناك..؟
-كلا ..انا ذاهب لحضور مؤتمر ..لبضعة ايام
-ااه..
-هل تعملين انتِ هناك ..؟
-انا طبيبة نفسية..اعمل بالجزائر لكني ذاهبة للحاق باسرتي التى تقيم هناك..
-اذا انتِ جزائرية..؟
-نعم..ترعرت هناك ..بمنزل جدتي ..لكن اسرتي مقيمة بباريس..
-انا احب كتابكم الجزائريين ..واسيني الاعرج ..احلام ..ألبير كامو.. يعجبني الادب الجزائري ..انهم يستلهمون الكلمات بعمق ادبي رفيع..
-شكرا .. ومن اين انت..؟
-انا.. ؟ انا لا وطن لي.. انا كالسندباد ... وطني الترحال.. صالات المطارات ..ارصفة القطارات .. موانئ السواحل ..
-هههه كيف ذلك ؟ هل من يرافقك في رحلاتك ..؟
ابتسمت وأشرت وانا ممسكاً بيداي .. كتابي و قهوتي..وبعضاً من خيالاتي..
-هؤلاء دائما من يكونان برفقتي .. حتى انني صرت اظن بانهما قد ملا مني .. وكرها رفقتي..
ضحكت انتي وقلت لي .. واين خيالاتك ؟
-تقصدين الان ..؟
-نعم..
-انتي خيالاتي ..
اندهشت انتِ باستغراب وتلعثمت الكلمات منك وهي تخرج وانتي ترشفين من القهوة ..
لكني ميزت تلك النظرة الفاحصة التى رمقتيني بها وكانك بدأتِ رحلة الكشف عن هذا الغريب .. ولربما قد تعاملتي وكأني مريض بعيادتك النفسية..
-ماذا تقصد ..؟!
-بالمناسبة ..انا لا امانع ..
-لا تمانع بماذا ..؟
-لا امانع ان اكون مريضاً بعيادتك ..يمكنك الكشف على حالتى..
-وكيف عرفت بأني اود ذلك ..؟
-لأني اؤمن بتصاريف القدر...
-وما علاقة القدر برغبتي التى تفترضها بالكشف عليك ..؟
-هل تظنين بأن لقاءنا كان صدفة..؟ لا اعتقد ذلك ..هنالك من ارسلك إليّ..
-هههه .. يبدو ذلك واضحا او كما قلت انك ترافق خيالاتك كثيراً..
-اذن أأعتبر انها موافقة وحجز مبدئي...؟
-لا بأس .. سأقوم بالكشف عليك..لكن بشروووط..
-وما هي الشرووط ؟
-اذا اتضح لي انك تهذى أو انك مجنون ..سأطبع ختم عيادتي الخاص على صفحة جواز سفرك ((Out of mind) ليعرف الجميع بأنك مجنون..!!
ضحكناااا ...
-لا داعي لذلك ..فجواز سفري مليئ باختام العيادات مسبقاً.. لكن بإمكانك ان تضعي ختماً اخر ..الان قد إنزاح جنوني ..وبك قد عاد صوابي و عقلي..!
هكذا كنا نضحك ونتبادل الابتسام .. مضت الساعات كاللحظات مسرعه...
تحدثنا كثيراً عن الامنيات ..تحدثنا عن انتصاراتنا وهزائمنا وعن طفولتنا و فرحنا ...
تحدثنا عن الخذلان الذى مر بنا ..وعن حزننا الخبيئ .. وعن سنين العمر التى عشناها بتجاربها وامتهانات الثبات..
كنا غريبين عن بعضنا .. لكن كنا معاً ...
ايعقل ان نكون فعلنا كل هذا بسبب كتاب ...؟!
بسبب (لأني احبك ) ...!!
سامي م. زين
2 notes
·
View notes