Tumgik
tenebbris-blog · 14 hours
Text
أخبر صنوفا عديدة من الأمل، الأمل الحلو المُسكر الذي يشبه الربيع، الأمل الذي يصيبك بما يشبه نوبة خوف، يوقظك من نومك في تعجل، الأمل الذي يشبه الروح، الأمل الذي يمد لك يدًا، الأمل الكسير، الناقص و الواقعي، نصف الأمل و الأمل اليائس، الأمل الذي يتوارى، و الأمل الذي يشبه السراب، عرفته و أنا أتمشى ناظرا للبعيد، نحو النجوم على الكورنيش جوار البحر، صيفا، خريفا، شتاءا، ربيعا، عرفته و أنا أعبر متمهلا الطريق المكسر نحو بيتي، فجرا، قبيل الضحى، ظهرا في زحام خانق، عصرا في باحة جامع في شارع المعز، ليلا طويلا مؤرقا على أسرة عديدة باردة و مليئة بشوك، قتلته مرة و قتلني مرات، راقبته و هو يتحول، يتبدل، يغير جلدته و يأتي فيلقي السلام لأرد و أترك له مكانا داخلي، تفضل، أنت طيب، راقبته قويا متجبرا، و شهدته ضعيفا خافتا أخشى عليه من النسمات، رافقني كصاحب جدع في الأسفار الطويلة نحو كل تلك الأماكن الغريبة، الموحشة، اتحد في صوتي و أنا أتحدث إلى أناس بوجوه أخرى، بعيدا عن البحر الذي أحب، عن النهر الذي يحنو علي، مسح وجهي من التراب أحيانا، و الدموع نادرا، أسند رأسي إلى كتفه في المواصلات الطويلة، قائلا: لا تقلق، غدا نصل، و إن لم يأت ذلك الغد فالذي يليه، انتظر، أنتظر، أنتظر حتى يأكل الأمل نفسه روحي غادرًا، لا يأتي الغد أبدًا، أحلم و تطاردني الظلال السوداء الطويلة، أركض، اركض من أجل حياتك، روحك، منذ عام، في عربة باردة أرتدي قميصا خفيفا، أرتجف و أحاول النوم، أنظر لهاتفي كل بضعة دقائق منتظرا رسالة منك، جملة، كلمة، أي شي، أحاول التفهم، دائما ما أفعل ذلك، أرتجف، أفتش عنه، ذلك الأمل الذي رافقني طوال الطريق، الذي أضحكني، الذي أكسبني جرأة كافية لأمزح مع الغرباء، كنتُ وحيدا، لا رفيق، برد طويل و ظلام خلف النافذة يعكس وجهي. أعرف الأمل، أعرفه كفاية لأعلم إن كان حقيقة أم وهما، أعرفه و أمنعه عنك، أو أفشل في ذلك، أين أنت؟ أين أنت يا أملي الحقيقي؟ يا فرصتي الأخيرة للعيش؟
في كل عام بين شتاء و صيف، في منتصف أبريل أو أذيل مايو، يقوم من سباته الطويل، يتمطأ، يمسح وجهه بأصابعه الطويلة، تطقطق مفاصله أثناء الحركة للحمام، ينظر لوجهه طويلا، تغير كثيرا عن العام الماضي، أكثر نحولا، بضي أقل في العيون، و بوجه تملؤه التجاعيد من فرط التظاهر، يفكر، ما الذي أحتاجه؟ ما الذي ينقصني؟ يشعر بالفزغ لما يصغي للصمت المطبق في رأسه، يرتدي ملابسا لا يتذكرها، يلقي السلام على رجلين يلعبان الطاولة أمام المقهى على أول الشارع، الرجل العجوز و الآخر في بذلة رمادية، يلحظ الثقوب التي أصابت حذائه الرياضي الأزرق، يفكر بصوته وحده، يشعر بالوحدة لغياب أصواتا آنسته في رأسه، يقول: هذا العام، هذه المرة سأصل، بلا أمل.
7 notes · View notes
tenebbris-blog · 1 month
Text
ربنا دائما ألطف و أكرم. الحمد لله
0 notes
tenebbris-blog · 2 months
Text
يوم اثنين.
موت ظالم و موت عادل.
أشبك يداي معا، أضعهما بحزم فوق النصف الأخير من عظمة القص، أدفع، بتواتر منتظم حتى يصيبني التعب، أنتظر الوقت المتبقي حتى انتهاء دورتي، و بعد تمام الدقيقتين أتحسس العنق لثوان فأفسح الطريق للتالي، ألتقط انفاسي و أراقب، عينان فارغتان تحدقان نحو مكان غير معلوم، فم مفتوح يمر عبره أنبوب بلاستيكي حتى رئتيه، أعلم أنه يسمع حديثنا كله، أعلم أنه خائف و يشعر، أعلم أنه لا يزال يسكن هذا الجسد، أضع يدي خلسة على يده الباردة و أضغط، أتمتم بالفاتحة سلفا، ينهي الذي بعدي دورته فالتالي حتى يأتي دوري، يخ��رني الأخصائي أنها الدورة الأخيرة، أواصل دفعي، أعد بين لهاثي، واحد اثنان، عُد عُد، تتفس، أركز بعينه الناظرة بعيدا و أود لو أهمس بأي شي قد يقلل رعبه، يتحدث الجميع حولي بشكل روتيني تماما، يحضر البعض ملفا للوفاة، و ينظر لي الأخصائي قبل انتهاء الدقائق العشرين أن أخبر أهله ريثما أنتهي، أركز جل طاقتي في الدفعات الأخيرة، يهتز جسده بالكامل في استسلام تام، وجهه محتقن، عيناه زجاجيتين. أتوقف لأتحسس في توجس جانبي العنق، لا شئ، سكون، أنظر لهم هازا رأسي فينصرف الجميع. أحاول إسدال جفونه فألحظ أن عيونه دامعة، يثير ذلك داخلي شعورا ما، لا أملك القدرة على توصيف مشاعري، حدث ذلك دون أن ألحظ. أعود فأتحسس نبضه.
يقف بجانبي مصطفى، رجل الأمن ذا الشارب و العيون الحمراء، يتجمع حولي ثلاثة أفراد، رجلان و امرأة، أدور بعيني بين الوجوه بحثا عن العيون الأكثر يأسا، أعلم أن وجهي يطفح بالخبر قبل أن أتفوه به، أعلم أيضا أن منهم من ينتظر عكس ذلك، البقاء لله.
أنظر للأرض و أضع يدي على كتفه في ربتة سريعة. يزيغ البصر، الدنيا تدور و تنهار، سيعرف اليوم عالما غير الذي عرفه قبل كلماتي، تصرخ المرأة و تمد يدها نحوي، تسأل في غير تصديق فلا أستطيع الجواب، يخبرني مصطفى أن أدخل سريعا تجنبا لأية أحداث غير متوقعة. لا يزال الصوت العالي يبث داخلي شعورا بالخوف رغم تجمد ما اعتاد أن يسيل، أواصل النظر للأرض حتى يهز كتفي زميل، يشدني نحو الداخل و يخبرني أن الأمر يجب أن يتم بسرعة، أومئ برأسي.
ما الذي أشعر به الآن؟ بعض التعب، هل هناك شيء آخر؟ أفتش، رغبة في النوم، فقط؟ نعم أريد أن أبكي، جيد، لماذا إذن تريد البكاء؟ لا أعلم، موت عادي؟ هل يمكنك توصيف الموت؟ أي موت؟ يظل الموت حدثا كارثيا خارج هذا المكان، يظل الموت حدثا كارثيا في كافة الظروف هنا بين يديك أو بالخارج، أتغير، ذلك الاعتياد يعيد صياغة نفسي، يوم بعد الآخر، أنهزم، أصبح أقل انفعالا، ماذا عن الألم؟ يزداد ثقلا فتمتلئ روحي بالثقوب، أيمكن رتقها بالأمل؟ ليس هنا، ليس بهذا المكان، لماذا؟ ما الفارق؟ العالم مشفى كبير، لا تجعل الأمر أكثر صعوبة، لا تبالغ، موت عادي، و أنا الآخر سأموت موتا عاديا ذات يوم، هل يمكنك توصيف الموت؟ أي موت؟
تمر الساعات، تدور الحياة دورة كاملة حول نفسها، تجيئ الشمس و تذهب دون أن أنظر مرة نحو السماء، في الليل أهبط سلما في المبنى الجديد، يصادفني شباك مفتوح على السماء، يطل ذلك المبنى على مقابر، ظلام دامس و هدوء، أتوقف قليلا فأتذكر أن المرة الأولى التي رأيت بها تلك المقابر كانت مع شاب اسمه عبد الله، عبد الله اللي من سيوة، صلينا معا و سرنا في جنازة حتى المقابر، أخبرني بثواب ذلك الفعل لما سألته أننا لا نعرفه، سينال عبد الله ثواب جميع الجنازات التي سرت فيها، أتمتم بالفاتحة للموتى أمامي و لعبد الله نفسه، عبد الله اللي من سيوة، صدمته سيارة منذ عامين أمام الموقف الجديد. موت ظالم، هل يمكنك توصيف الموت؟ أي موت؟
في الصباح أمام عناية الأورام، و هي مكان بائس في الدور الأول، يهتز هاتفي عدة مرات في جيبي، أتحدث بوجه مبتسم مع الحاجة كريمة، يمتلك المرضى الواعون هنا رغبة هائلة في الحديث، ربما لأن ذلك يشعرهم ببعض الحياة، و يخرجهم قليلا من طور المرضى في الأيام الأخيرة، تخبرني أن المريض على سرير رقم ٢ يصرخ بصوت عال في الليل نحو أشخاص غير موجودين، أقول لها أنه غير واع، و أنها ستتحسن قريبا و تخرج من هنا و لن ترى أحدا فينا مرة أخرى إن شاء الله، ربنا يطمنك يابني و تضحك. أعاين هاتفي فأجد ثلاث رسائل من أمي و مكالمة فائتة من أبي، توفى والد بلال، كلمه. يقول أبي في صوت واهن، يجب أن تأتي فتعزي صديقك، موعد صلاة الجنازة و الدفنة بعد العصر. سأحاول أخبره.
تسير السيارة في رتابة، تأكل الأميال، تتوالى أعمدة الانارة، تلسع قلبي نبرات المنشاوي، فأستشعر بغرابة بعض الدموع تتجمع بعيني، أصرفها سريعا و أحاول نسج قصة ما، أتسلى بالملاحظة حتى يغلبني النوم، يتساقط رأسي من فوق عنقي مصطدما بكتف الرجل جانبي مرة، و بزجاج النافذة مرات مصدرا صوتا عاليا، لا أهتم لنظرات الآخرين المستنكرة. قال ربك هو عليّ هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا. أواصل النوم مستندا إلى ذراعي تلك المرة مبتلعا بعض المرارة في حلقي.
أسير بلا حقيبة ظهري نحو الجامع الصغير، أدرك الركعة الثانية من صلاة العصر، يمتلئ المسجد عن آخره، نصلي الجنازة، أتذكر كيفية صلاتها بسرعة. أسلم على بلال و أعانقه كما فعل من سبقني، أنظر له في عينه، البقاء لله، يتمتم بشي ما لا أسمعه. أقف بجانب صديق آخر أستعين بمراقبة أفعاله.
أسير، أراقب موطئ قدمي لئلا أتعثر أو أدوس قدما أخرى في تلك المسيرة الكبيرة، صمت تام إلا من صوت بعض التكبيرات و الهمهمات، صوت احتكاك النعال بالأرض، سريان يشبه تدفق الماء، أواصل التقدم حتى أصل له، يلحظني الذي يسبقني بطرف عينه فيناولني أمانته، أضعها فوق كتفي اليمنى فيتأفف حاملو الأطراف الأمامية، يخبرني صديقي فيما بعد أن أذهب دائما للأطراف الأمامية لأنني طويل، تفاجئني الحمولة الثقيلة فأصرف عن ذهني سريعا عدة أفكار.
نقف في ممر ضيق، أستمع لصوت تكسر الحجارة، بتصميم حتى ينفتح الباب، تحدث حركة في الصفوف الأمامية، يحملون الجثمان عاليا ثم يهبطون به، في اللحظة نفسها أشعر بخوف هائل، تدمع عيني و لا استطيع تمالكها، أخفض رأسي و احاول جاهدا ألا أصدر صوتا، تتملكني شفقة و عطف نحو صديقي، نحو أبيه، أتذكر أنه أنقذني مرة من عراك أحاطني فيه أربعة أولاد، شخط فيهم حتى ركضوا بعيدا. يخرج بلال بوجه مليئ بالتراب، كان وجهه ثابتا طوال الوقت و لكنه انهار تماما عندما وضع الرجل مسحة من الاسمنت فوق باب المقبرة، خاطا عليها اسم والده و تاريخ اليوم. أردت أن أتجاوز مسافة الأفراد بيننا لأكون بجانبه، و لكنني كنت مشغول بدموعي. هل يمكنك توصيف الموت؟ أي موت؟
في السيارة التي تأكل الأميال كان قلبي أكثر ثقلا، أشعر أنني أحمل ذاكرة الموت كلها داخلي، يصيب الشرخ جدار بنيته داخلي فيتصدع، يتسلل قدر ضئيل، ضئيل جدا مما جاهدت لإخفائه طوال كل تلك الشهور، أي ظلم هذا الذي يقع؟ أي قدر هذا من الموت؟ عشرة آلاف؟ ثلاثون ألفا؟ واحد. واحد يكفي حتى تنهار الدنيا، لو كانت دنيا عادلة. يخطفني نوم أرى فيه حلما قديما، ظلال طويلة بلا ملامح تسد الطريق الطويل الذي أنا مرغم على السير فيه، لا سبيل لي في العودة إلى الوراء، لستُ أنا من وضع تلك القاعدة، لا سبيل لي أيضا في المراوغة نحو اليمين لأن هناك جدارا، أو اليسار لأن القناة الضحلة لن تستوعب أقدامي الثقيلة، أسير نحوها متباطئا، خائفا، و الخيار الوحيد الذي أملكه هو خيار الوقوف، ساكنا يلتهمني العمر، و هناك في البعيد، أو القريب فلا شئ يساعدني في تبين المسافة، تقف الظلال الطويلة في ثبات و تحد.
أغادر السيارة فأقرر أنني سأعود سيرا، المسافة من قسم باب شرق حتى المشفى ليست بالطويلة، الهواء طيب و عبادي الجوهر يغني بنبرة أجزم أنها أشد حزنا من ذي قبل. في داخلي شوقٍ و خوف، طالع فؤادي و اسأله. خلك على قلبي عطوف، منك الجفا ما أتحمله.
أبدل ملابسي، أخلع وجهي الباكي، أضع حذائي جانبا رفقة جسدي كله، أضع أطراف روحي المليئة بالثقوب داخل البذلة الرمادية، متى أصبحنا واحدا يا أستاذ عزيز؟
يضع الدكتور إيهاب يده فوق حنجرة الميت، محاولا خلق سيناريوهات صعبة لتركيب أنبوب حنجري. بعدما انتهينا أقف جانبه، أسبل جفونه، كانت هي الأخرى دامعة، هل يبكي كل الموتى عندما ينصرف الجميع؟ لما يراني الدكتور إيهاب واقفا هناك يأتي و يقول البقاء لله، هل كان مريضا؟ هل كنت تعرفه بما فيه الكفاية؟ كان مريضا بالسرطان، بالرئة، كان مدخنا شرها و كان والد أحد أصدقائي. البقاء لله. يملك الدكتور إيهاب عينا عطوفة و صوتا حزينا.
تؤلمني معدتي فأتذكر الطعام، أشتري كوب من الشاي و بعض البسكوت، أنتحي جانبا و أتناول طعامي، أري عم محمد، رجل كبير طيب، عرفني على هذا المكان، أدعوه للقدوم، تشرب شاي؟ يأتي ضاحكا -أحب ضحكته- فيجلس جانبي و يتحدث عن كافة الأمور كما اعتاد و لما يلحظ عدم تجاوبي و لو بهز الرأس، يصمت. قلقا على الجميع من الصمت أسأله عن أولاده، يخبرني بنعم، اسأله السؤال التالي، عنده قد ايه؟ يحول وجهه نحوي و يقول بذات الضحكة التي كسرت قلبي، كان هيبقى عنده ٣٢ سنة. هل يمكنك توصيف الموت؟ أي موت؟
أمضي، يشتد الهواء في ذلك المكان ليلا فيصدر ما يشبه الصفير لما يعبرني، أواصل عملي، غير ناظر للخلف لئلا يروعني رؤية ما تساقط على مدار الأيام.
أريد أن أسافر فأصل إليك. أنا اليوم، أخيرا بكيت، و لكنني رغم هذا لم أشعر أنني حي، قوليلي، أعمل إيه؟
هل يبكي جميع الموتى عندما ينصرف الجميع؟
9 notes · View notes
tenebbris-blog · 3 months
Text
أتركها بلا تعليق. لحد ما ألاقي أي كلمات أعرف من خلالها أن أصف الأثر الكبير لها في نفسي، من فترة و لحد الآن، منعي من السقوط و الشطط أمام كل ذلك القدر من اللا جدوى و الغضب و الحزن بلا دموع. لكني ممتن لها و الله، و آمل -لازلت آمل- أن ألقى ما سقط.
0 notes
tenebbris-blog · 7 months
Text
ممكن أي حد ماشي يدعي بأي حاجة
2 notes · View notes
tenebbris-blog · 7 months
Text
In love with this combination of colours and scenes
Tumblr media Tumblr media Tumblr media Tumblr media Tumblr media Tumblr media Tumblr media Tumblr media
Shoda Koho (Japanese 1870-1946), Sea in the Moonlight, 1910-20, Color woodblock print
1K notes · View notes
tenebbris-blog · 8 months
Text
عدة أيام في القاهرة من المفترض كانوا لتسهيل اتخاذ قرار ما إلا أنهم تركوني بتوهة أعمق و أكثر ما يمكن أن يحمله شخص نحو مدينة من مشاعر مختلطة، زخم الحياة الكاسح الماحي للروح، الشقاء الغائر في الوجوه، التراب و أشياء منسية في كل ركن، حركة دائمة، كله من مكان إلى آخر، لا يوجد وقت للتوقف و النظر إلى زهرة تقاوم قبحًا في عشوائية رمسيس لأن السائر خلفك هيصدمك، و يلومك، أو يطلب منك أن تساعده في حمل شئ ما، أو عن السبيل إلى مصلحة ما، و أنت أصلا تائه، في المكان بطبيعة الحال، و توهة أكبر في نفسك، لأننا كائنات لا توجد حدود واضحة لفصل ذواتها الداخلية السائلة في المكان و الزمان، تجد نفسك في خضم شئ ما، لا يد لك فيه، و لما تبحث عن زاوية لالتقاط أنفاسك، تجدها مشغولة، موقف سيارات أو فرشة لبائع لحوح، أو سرير -شي أقرب إليه- لمتشرد، الجو حار، تكتسب عصبية أهل المدينة، تنتظر سيارة، تدافع، تكتم سبة و تسير، من المستحيل تطويع المسافات هنا، تعود صاغرا، مترو مكتظ، شحاذين، تراقب وجه سيدة بقدم واحدة فور خروجها من الباب، مسرح، المزيد من السير، مباني رائعة متروكة، متربة، نصف مهدمة، تسرق لحظة ساكنة من الحر بكوب قصب بارد، لا تملك رفاهية التساؤل عن مدى نظافة الكوب لكن تتساءل: هل هذا أنا؟ تهز إمكانية مدى تخلخل طباعك أمام جنون مدينة في ظهيرة صيف، تعبر طريقا، و المدينة كلها عبور لطرق، تصدمك دراجة نارية (موتوسيكل) تتألم و تمسك برأسك و بجانبك، تعتذر بعدها بدقائق للسائق لأنه رجل كبير طيب، تعرض عليه أن تسير معه إلى منزله، تسند له دراجته، كان ينزف، أنا دكتور، تحتاج غرزتين، أنا آسف يا حاج، حقك عليا، أصل أنا مش من هنا، يحلف عليك أن تغادر و أنه حصل خير، يربت على كتفك، تحزن أكثر فتربت على كتفه، تغادر ببطء أكبر و بأسف متأصل. تقضي مصلحتك، يوجد عندنا إحدى عشر سريرا، عشر نبطاشيات بالشهر، ستتعب في البداية، هتسافر مش كدا؟ تصافحه و تشكره على وقته، و يدعو لك بالخير، تلاحظ عودة الكرب إلى وجهه و أنت تغادر. سيارات الجيزة؟ الناحية الأخرى، هنا الجيزة؟ عدي الكوبري. الجيزة هنا؟ زجاجة الماء الرابعة، بارد، مريح، تشرب، تمسكها بيدك و تسير، لو سمحت ممكن أشرب؟ تفضل انا خلاص شربت، شكرا جدا، شكرا. سير، حر، تعب، و ألم.
في الليل، عمرو دياب يعبر بين ضجيج متعب، كرسيان خشبيان على قهوة في شارع متفرع من التحرير، كوبان من الشاي بالنعناع، و صديق يعرفك و تعرفه، أكثر خبرة منك و علمًا بالمدينة، تتحدثان الليل بطوله، تضحكان فتشعر بروحك تعود، ببطء، تتناولان كمية غير قليلة من اللحوم، توجس مع كل لقمة، النادل يضع شربة كوراع أمامكما، لم نطلبها، لا ديه من المتر، رجل كويس، لا أستطيع تقدير البقشيش المطلوب، ستتعلم. مطهر معوي و تتوضئان للفجر، تنظر للسقف بفم مفتوح، تربع قدمك، تخط بيدك فوق السجادة، تدرك أن الله هنا و هناك، تشعر ببعض الراحة، تدعو بالهداية و بالخير، اللهم لا تكلني إلى نفسي، دبر أمري. تسيران في محمد محمود، تخرجان للميدان، رجال في زي أمن يتناثرون، يتدثرون بالظلام، تشعر برهبة عابرة فيرمي صديقك السلام، يرد العسكري و ينظر الضابط بعيدا. شكل مفيش مرة تانية.
تودع صديقك و دليلك عند عبد المنعم رياض، يخبرك بقصته في حماسة، يحب التاريخ و أنت تحب الاستماع، تصافحه و تتفقان على اللقاء بعد أسبوعين. تركب شيئا للسيدة زينب، تنتظرك هناك حرارة قاتمة، و شاب طيب من بني سويف يحدثك بأنه لا يحب العيش هنا و لكن أكل العيش. تنام.
في نهاية آخر الأيام، أترك الأمور مُعلَقة، لا أستطيع الفصل، الكثير الثقيل من قرارات بدون خبرة كافية أو الوقت لتحمل ما يطيش، أتحرك؟ أظل في مكاني؟ هنا أم هناك؟ غربة أم غربة أكثر؟ طيب أين سأضع مكان لها -ضميرًا غائبًا- وسط كل هذا؟ طيب أريد و أريد و لكن لا أستطيع، إذن تحمل كي تستطيع، و لكن؟ طريقك وحدك، لإمتى؟ طيب ليه كل ده؟ متسألش، الوقت يجري، و الظلال الطويلة ستبتلعك، أنا كنت بحب أعمل إيه؟ مش مهم، امشي، اتحرك، غادر، سافر. تتسارع أنفاسك، تصرف أفكارك المتتابعة كأعمدة الطريق أمامك، الطريق طويل، و أنت وحدك، تتحرك و تسأل لأنك تخاف، و لا يوجد ما تسكن إليه، تعود، هنا الآخر يا حضرات. مشاريع اسكندرية منين يسطا؟ عدي الطريق.
14 notes · View notes
tenebbris-blog · 8 months
Text
"القلب يا هند لا يمتلئ بالجديد في ساعةٍ واحدة.. ولكنّي أغالب نفسي على ما فيها من هوى السنين الطويلة، وقد تولّى من العمر أكثر مما بقي، وإنّي لأتلفّت من حولي في مكة، فأرى أطياف القديم تنبعث لي من كل ركنٍ وطريق، ثم أصحو على الجديد وقد تغيّر كل شيء، ذهب زمان وجاء زمان آخر يا هند، فلا أدري.. أَأُنكِر ما أرى؟ أم أنكر نفسي.."
18 notes · View notes
tenebbris-blog · 8 months
Text
يغادر، بعد يوم عمل طويل، الكثير من ابتسامات لمنح طمأنينة لا يدري إن كان جديرًا بمنحها، يحاول ألا يتمادى فلا شيء يُمنح يعوض ما يغيب، يغادر، يقف بجانب الطريق و يرفع يده في تعب، لا تتوقف له أي سيارة، فتمر برأسه خاطرة ترسم شبحًا طفيفًا لبسمة تكسر قتامة في وجهه، يستمر في عملية التلويح حتى تتوقف واحدة، ضيقة، حارة، يلعن الصيف، إضاءة وردية و سقف مبطن بالفرو يحاول جاهدًا ألا يلمسه، موسيقى مؤلمة، لا يتحمل فيقرر أن يكمل ما تبقى من طريق سيرًا، و لأن السير فعل شاق إن لم يكن هناك ما (من) نفكر به يطلق عيناه للوجوه من حوله، أعمدة الإنارة، و سماء تنافس ما علا من بناء فتلقي غيمة و نجمتين، تزداد الغرابة في نفسه، لا الناس يشبهونه و لا الطريق يألفه، كل شبر مُنهك هنا، الوجوه و الطرُقات، يفتقد الأسكندرية ا��تي عرفها، يقول فيه نفسه أنه لا بأس، يجب أن يتحرك و أن يستعد، رغم أن الاستعداد للأمور لا يجعلها -عندما تحل- أقل قساوة، لا شئ غير الكدر، معلش، يفكر و يفكر، حتى و إن عاندته الكتابة، يملك خياله، سيحاول من أجل غرابة أقل، سيحاول، التأقلم يأتي بعد المحاولة (يتأقلم عمومًا)، يجرب، يناور، لعل و عسى. تؤلمه بطنه، جوعا؟ يقف في طابور طويل، تسبقه أسرة صغيرة، ولد ينظر له (يشعر ببعض الارتباك)، بنت تشير إلى حلوى المارشميلو، أب له وجه صارم ( كل الآباء لهم وجوه صارمة، ملاحظة ذهنية: لا تكن واحدًا) و أم مشغولة بمراجعة قائمة المشتريات، يزداد التعب، و الألم، و التوق، الألم و التوق شعوران متلازمان، ينظر له (الكاشير) و ينقل نظره للقليل في يده، يساعده في تعبئتها لأنه يشعر فطريًا بالذنب، يعطيه المال مبتسما و يغادر مسرعا، يلمح بطرف عينه أمرا ما، يهز رأسه و يهم في خطوه، يتمتم (يخلق من الشبه أربعين). يضع مفتاحه في عين الباب، كل شي ساكن، في مكانه كما غادره، ظلام، نور طفيف يأتي من الحمام، و صوت صنبور غير مُحكم الإغلاق، غادر (الرفاق) كلٌ إلى وطنه، و الوطن ليس البلاد بأكملها، و لا حتى منزلا به عائلة و ثلاث قطط، و لا سرير واسع جوار مكتبة، الوطن شيء آخر (يا صفية) لا يعرفه، طامحا في صوت تدور مروحة السقف في تصميم رغم ما بها من تهالك، يحييها (أنا جئت) و يقف أمام ما جلب من طعام، الجوع ام التعب؟ يغير ملابسه و يأخذ (دشًا) باردا، ينتصر التعب. يتمدد فوق سرير، مُغطى بملاءات (الرجل العنكبوت) أعطتها له أمه، لم يعد يخجل منها، يتصفح بنصف عين هاتفه، ترسل له أمه صورة لقطته متبوعة بتعليق (قاعدة منتظراك) يضع قلبا و يهاتفها، يقاوم التعب في صوته، يضحك، يسأل عن الأحوال، نعم أرتدي كمامة، نعم أتناول الطعام، اشتريت العصير، حاضر لن أنسى ملقة العسل على الريق، يفكر، يصمت، يتغير أمر ما، بصوت أكثر حرارة يسأل، تُلاحظ ذلك و يسعد صوتها، يزول التعب من صوته، يضحك بجد، و يتحدث عن يومه، هؤلاء يستحقون، البعد لن يولد الجفاء، لا تكن وحيدًا، يغلقان الخط، يرسل لوالده مقطع موسيقي عبر الواتساب (انا في انتظارك) للشيخ امام، يعلم أنه يفضلها بصوت أم كلثوم، يترقب ردة فعله، في الصباح ربما.
يكتب. لا من أجل قيمة.
لا من أجل نفسه.
ربما، لأنه موجود.
أو مُنهك و جائع.
مقاومة، قربًا.
أو من أجل لا شئ.
يغلق عينه، يصب تركيزه على صوت دوران المروحة.
يتجاهل، بدافع العادة، أو الخوف، أو التعب.
أن للظلمة من حوله صوت.
11 notes · View notes
tenebbris-blog · 8 months
Text
دائرة
يتعلم شيئا فشيئا صياغة الجمل، بلا تعقيدات تقديم و تأخير، في حضور فاعلها، وفي ابتدائها مُبتدأ، يحدثنا خبرها بالمُراد و إن لم يكن فيه التمام قد تقوم شبه الجملة في محله بما يتطلبه الأمر، ربما بعدها يستبدل الأسماء الصعبة الجامدة بأفعال أكثر بساطة، بساطة سائلة قد تؤدي لمكان ما - يحب تلك الاحتمالية-، بساطة قد ينسد مجرى المعنى فيها فتضحل و تجف إن ساورتها الظنون في الخروج عن الورق. قد تكثر الفصلات و يتقطع الحديث، يظن أنه يعطيه شكلًا جماليًا ما رغم افتقاره للترابط المطلوب، فيتوه منه المعنى ويركض بعيدًا خائضًا في ضباب مُختلَق تمامًا كما استعصى عليه خارج أروقة السطور، يُعزِي هو ذلك التقطع الذي يظنه جماليًا إلى تعبه و ضرر أصاب بصره، و ما يناظره من تشتت أثقل وطأة في مهد أفكاره نفسها يعود في أصله إلى طريقته في الحديث، فنحن -على الأغلب- نكتب كما نتحدث، و في ذلك مصيبة لأن حديثه قصير كأنفاس مصاب بالسل، بارد و ذو نبرة واحدة يجاهد -إن كان مهتمًا كفاية- لتلوينها بانفعالات تعلمها بالمراقبة -وكانت أكثر شيء يجيده- فيفلح حينًا و لا يناله في أخرى إلا ادعاء يمقته، لا يثنيه بأية حال عن الاستمرار، لم يكن مثابرًا، بل مدفوع و مغلوب على أمره، يسوقه شعوران، يدوران باستمرار في جوفه، يزاحمان روحه التواقة لسكون و طمأنينة أصاباها باضطراب من يشغله الحلم، من لا يعلم ما يريد تحديدًا و ماذا يقول، من لا يدري كيف يعيش حياة فُرضت عليه: شعور متأصل بوحدة -يأبى أن يُعرِفِها- وجودية، لا تتبدد، لا تُناوَر، هناك، راسخة حتى قبل أن يصيبه ما أصابه، من حب في قلبه، و عطب في لسانه، و وحي في أصابعه، يشير إليها في الأركان -لا تنظر إلى الأشباح-، تحت الأسرة -تقتات على خوفك-، و في عيونه بالمرايا -تتمكن منك فتسكنك-، تتحرك كغيمة في الليل، تُداري نجومًا تهديه، وقمرًا يُؤنسه. قد تصرخ إن أَفلح في التلهي: يا هذا، أنا هنا و تعلم ذلك، اقبلني أو لا، لن تُغير من الأمر شيئًا، قد تلاعبك حروف تخطها فتعجبك، قد تجد بعض السلوى في الوجوه المُتعبة، في الشيب، و في غروب ضحكتها، ولكنك تعلم، كما علمتك صياغة الجمل -فالوحدة تُحب أن يتحدث عنها الوحيدون- فبترتَها فضعت فلجأت إليَ، أنَي هنا، في نفسك، حولك، بموسيقا الصباح و ألوان الغروب، أنا هنا، تعرفني منذ البداية، معك كظل لا يخاف ظهيرة أو ظُلمة، تعرفني حتى قبل أن يغويك الأمل فتقع في حبائله، الأمل يأكل الأرواح، أخبرتك فلم تصدق، عدتَ خاويا تحمل روحا حالمة مليئة بالفجوات فرتقتُها كلها و وقيتُك شرور السقوط في الهوة، أنا هنا، صفحة قلبك مطبوعة بآثار أصابعي الطويلة، امتد حزنك رفقة خطوك الدؤوب في ليالي ألم رفضنا أن يأويه الظلام معنا إلى سرير واحد فقصدتَ شوارع هائما باحثا، رأيت فشعرت فتاه الألم، و شر الآلام ألم لا يزاحمه حنين أو أسف، و الأسف هو شعورك الثاني الدافع، لا تريد لآخر أن يصيبه مُصابك، هوان، كلا، وحدة، ربما، تتحرك و تمد يدك فلا تصل، تعتذر، اعتذر، عن وجودك، ضعفك و عدم كفاية ما حاولت و بذلت، نعم، مريض يأسف لمرض غيره، مريض أراد أن يبدد مرض غيره، ألم يكن من الأولى أن تفهمني أولًا؟ أن تراني كرفيق قريب لا كمرض؟ أن تبصر داخل ضلوعك لا في شتى الأماكن هربًا فتجني وحدة و غربة؟ تكرر الخطأ مرتين، تشذب الأشجار الطويلة فوق ضفاف عينك، تقلم الأعشاب و تُمهد الطرق. هادئ وديع، تقبلني! رقيق هامشي و صموت، اقبلني! سأفهمك، سأبذل قصارى جهدي فأرى داخل نفسك، سأعينك عليها، ستغضب لما أفعل ذلك، و الغضب شعور ناري، ستحاول أن تقول حديثا ذا أطراف حادة ليجرح، فلا أحد يحب أن يرى نفسه، و لكن لا تقلق فعيني ندية أمام الغضب و روحي فضفاضة كأرواح العجائز، ستحبني بعدها، أليس كذلك؟ ستقبلني، تحبني و من يحب يتحمل، كما فعلتُ أنا، تضعني في عينك كما أعطيتك عيني، أراني من خلالها فعيونك -شأن عيون كل مُحب- أرحم عليَ من عيني، في النهاية، بعد كل ذلك، يمكن بمعونتك فقط، أن أُحبني، و الحبيب يمسك بيد حبيبه فيسير معه و السير فعل حميمي، خلال ظلام نفسه، ظلام وحدته، و الخوف المستمر من تبدد اللحظة جراء فعل بسيط كالتفاتة، و الخوف شعور الطفولة الأول و فيه من براءتها، يد بيد، زال الخوف، في النهاية و بعد السير، يمكنني بمعونتك أن لا أكون وحيدًا. و يجوز أيضًا، و هناك بكاء كامن -والبكاء في الأصل فعل تسليم- في عدم حتمية ما نريد، رغم أنني حاولت، ألا يحدث كل ذلك، فأعود، وللعودة طريق آخر شديد الوحشة، وحيدًا و أكثر أسفًا، نحوك، نحو العالم، ونحو وحدتي نفسها، أترجاها، أستجديها، مادًا يدي التي عرفت -والعارف تعذبه و تغريه احتمالية النسيان- معنى الراحة في العناق: علميني كيف أصيغ جُملي؟ 
6 notes · View notes
tenebbris-blog · 11 months
Text
It's the first time I can say without any doubt I don't have anybody that could be called a close or a best friend, it just happened sooner than I expected.
10 notes · View notes
tenebbris-blog · 11 months
Text
تنهيدة طويلة، و أخيرة أيضًا.
أهذا أنت؟/ ألم أقتلك؟/ قلتُ قتلتني/ ولكني/ نسيت مثلك أن أموت
يومان و أمضي. حلمي زائل و ألمي أيضا لن يدوم.
يومان و أمضي. فهل تنساني؟
الحلم ينتهي بانتهاء الحياة نفسها.
ينسحب تاركا خلفه توقا ثقيلا بقدر ما في الحلم من خفة.
لا ألوي على شئ، لا شعور يُلون روحي، إن كانت هناك.
يتقلب، يصيب جانبه الأيمن خدرٌ فللأيسر، يشد ركبتيه، يثني جزعه، يتوسد يده، متوسلا الدفء، و لما اهتز شيء في أعماقه، جوفه، أو فم معدته، أطلق عليه روحًا.
أحصي مفرداتي، أتأملها، أعرض ما يصيب روحي من شعر، نثر، أغنيات، فوق جدران غرفتي، أهز رأسي و أقول: لا يكفي. فتتبدد جميعها. أبحث بينها، أفتش بحرص، بتأن، لئلا أفقدها قتمضي و أمضي أنا معها، سالكًا طريقي في الحياة الذي يبلغ طوله يومين، بأصابع معقودة، كما أنجبتني أمي في صيف بعيد بلسان معقود و بصدر فارغ.
أقف أمام المرايا الكثيرة، تعرضني كلوحة من جميع الجهات، فيظهر هزالي، و انحناءة ظهري، و ما أفزعني، فراغ جوفي، أنظر في وجوه من حولي، هل انتبهوا للمسخ داخلي؟ يمد لي يده، بإطار نظارات جديد، يخبرني: سيبرز بنية عينيك، يناسب تدويرة وجهك أيضا. أشتريه و أسير مختالا، أقول لنفسي: أنا شخص جديد، سيعيش يومين و يمضي هو الآخر و لكنه حر، من أمل البارحة، من طعنات الحلم، و من ندبات الماضي. يسير متشاغلا عن البقعة الداكنة التي تتسع رويدا في مجال رؤية عينه اليمنى.
ينظر للسماء، يضع كفه فوق عينه اليمنى و يجيل يسراه في نواحيها، لا تزال زرقاء صافية، يراقب سحابة صيف مسالمة تمضي في البعيد، لا تزال السحب بيضاء و خفيفة، تتسع حدقته و تضيق لمرآى العصافير، لا تزال ترقص و تغني، و الأشجار تتمايل في رقة بريئة لمعانقة نسمات الهواء، و النيل يمضي بسطح تتبادل نعومه و تموجاته، يحمل بحرص قواربه و يخفي بحرص أكبر أسراره و أنين جنياته، الشمس تلسع ثم تعود بحنان فتمسح بأشعة برتقالية جبهة الوجود الندية، يأتي القمر رفقة ليل كسول، يرفع يمناه عن عينه، ففي الظلام تختبئ البقعة، يجيلهما معا، في الاتساع الغير محدود لسماء الليل، يشاهد مجموعاته النجمية -فم الحوت- ، الكواكب التي تطمح أن تصير نجوما فلمعت، في القمر الذي أكلت الظلمة نصفه فتألق كضحكة صغيرة للظلمة نفسها، في المصابيح، الحي منها و الميت، في غدو السيارات و رواحها، نباح الكلاب الوحيدة و هديل حمامة ضالة، كانت كلها هي، هي، كما كانت، لا يتغير منها شئ أو ينقص، كان يتعجب، ذلك الشخص الجديد، الذي لم تغيره إطارات نظاراته الجديدة تماما، كان يتساءل: لم؟ لم لا أشعر إلا بالتعب؟
كان يضحك دائما بعيون دامعة، يتساءل من حوله عن سر ذلك الندى في عيونه.
كان يضحك دائما بعيون ندية، كان في الثوان القليلة لتلك القهقهات ينسى أشياءًا كثيرة، وحدته و لسانه المعقود، عدم قدرته على البكاء و ألم لياليه الشديد، موته المُرتقب و لمحات بسيطة من ألفة كان ينبغي له أن يحظى بها. كان يضحك بعيون ندية لأنه أحب وقع الحياة في صوته.
يقول لنفسه دائما: أنا لا أبالي. أو على الأقل تعود فعل ذلك، تماما قبل أن يترك أقدامه تمضي، تذرع الشوارع، بحثا عن كتف، يمكنه أن يستند إليه. يصيغ سمعه، يمحص داخل النبرات المتداخلة عن نبرة ناعمة لصوت شابه صوت أبيه ذات يوم بعيد. كان يقول لنفسه دائما: أنا لا أبالي. لأنه لم يجد يوما هذا أو ذاك.
آلمه -ككل شئ تقريبًا- رؤية ما يُسقطه الناس و الحياة سهوًا، يترك همه، و يجلس جوار أم لها طفلين على رصيف مظلم، يحضر طعاما يحبه، حلوى أعجبته كثيرًا لما كان طفلاً، و ماءًا باردا نظيفًا، يتناول لقمتين لأن القسوة غالبًا ما تضرب من يتناول طعامه وحيدًا، ثم يمضي.
آلمه -ككل شئ تقريبًا- رؤية ما يُسقطه الناس و الحياة سهوًا، أنساه ألمه أنه نفسه أسقطته الحياة سهوًا.
كان، وتلك لفظة العجائز المُحببة، فوق فراش موت في الحالات العادية، فوق الأرائك التي تزيدها حرارة حركة الأحفاد إن كانوا محظوظين. كان يجلس بظهر مستقيم، بوجه صارم و بحاجبين معقودين، صوته ثابت و بعيد و مهتز، يقول: أنا لا أنتظر أحدًا، لا أحتاج شيئا. بعدها تلين نبراته -واللين طبع، و الطبع يغلب- و يفتح الحزن نوافذا في عينه، و يستمع، أحب الاصغاء. في الليل، متدثرًا بنوم الجميع، يتمكن من خلع عظامه ليعود فيصبع رخوًا، يجلس متربعًا كجده، فأطرافه باردة على الدوام، يحني ظهره و يضع راحتيه في حجره باستسلام، لن يفضحه الظلام مثلًا إن قال: أنا مُتعب جدًا. يؤلمني كل شئ. يبحث في يومه، المشاهد و الأصوات الكثيرة، الضحكات التي سمعها، النظرات التي أصابته و أصابها، العيون العديدة التي دائما ما تصيبه بالارتباك، عن مشهد واحد أو صوت أو ضحكة أو نظرة من عين واحدة فقط، التفتت إليه و رأته. و كحال كل يوم، يخلع نظاراته، يتوسد راحته و يثني جزعه، و لما يشعر بحركة في جوفه، يقول: على الأقل لستُ وحيدًا جدًا. فيضحك الشبح الواقف جوار خزانة الملابس.
عندما كانت الكتابة تطاوعه، تسيل مفرداته خلال أصابعه، أراد أن يكتب عن ذلك الشبح، و الشبح هو ما لا يُرى بوضوح، فيقولون: شبح سعادة. أو وجود طفيف لشئ اعتاد أن يكون متمثلا و ثقيلا، مثلا يمكننا قول أن الموت شبح الحياة، و الموت يوازي الحياة في ثقلها و كثافتها و لكنه أكثر هدوءًا في ذاته رغم ما تثيره الحياة ضده من جلبة و رعب، أو ربما لا تلتقط آذاننا موجاته المُلحة -من أجلك يا أستاذ عزيز- المتكررة: أنا هنا. الشبح الواقف جوار خزانة الملابس، كان صبيًا ذات يوم، أحب الصيد، أدهشته الأجساد المُلتوية من بشاعة الهواء التي تخرج بغتة من روح الماء، أدهشته بقدر السرعة التي تتبدل بها الأشياء، خطفت سنارة عينه اليمنى، عندها فقد نصف الدنيا و حبه للصيد و الماء، وضعوا له عينًا زجاجية، بكت عينه اليسرى كثيرًا عندما اكتشف أنه لا يمكنه الرؤية بها، أنها كأشياء أخرى عديدة سيتعرف عليها لاحقًا، تجعله أقل إثارةً للنفور. كلما التفت للأرض سقطت، فتوجه برأسه إلى السماء، هناك لا توجد وجوه تكشر لما تراه، هناك اتساع أزرق صاف و جميل، وقع في شباكه أول مرة لما أطال التحديق فيها، الأمل، قد تتحسن الأمور، لم يفقد نصف الدنيا، يمكنه رغم كل شئ، يمكنه أن يحيا. لا يعلم الشخص الجديد الذي لم تغيره إطارات نظاراته المُغايرة كثيرا إلام ترمي هذه الأحداث، و لكنه يعلم أنه فقد عينه الأخرى من طول التحديق لغير الأرض، و يعلم أنه فقد دنيته كلها، و تعرف في الظلام على التوأم الأقل جمالًا، و الأكثر صدقًا للأمل، و عرف أيضًا لم يجتهد الجميع ليصبحوا أقل إثارةً للنفور، لأن ما يتجنبه الناس تنساه الحياة، و كسائر المتجولين كالأشباح، بجدائل ضفرها التراب على الأرصفة، و بملابس كلها بلون بُني، يعيش في صمته حتى يأتي اليوم الذي سنتبادل فيه الأدوار، حينها سأقول: على الأقل كنتُ أراهم، على الأقل أتذكرهم. فيضحك الشبح الواقف جوار خزانة الملابس.
يومان و أمضي.
تنظر لي بعيون اختلط فيها عدم الفهم و شعور آخر أتجنب رؤيته، تسألني بلكنتها البدوية عن سبب تناولي طعامي وحدي. أخبرها أن لساني معقود، أنني لا أستطيع الحديث مثلهم، و أنني مُتعود.
يومان و أمضي.
أم عبده، لا أستطيع تخمين عمرها، تنظف و تمسح هنا و هناك، تدعو لي كلما رأتني: ربنا يجبر بخاطرك. و تصنع لي كوبًا من الشاي بملاعق سكر أقل مما أُفضل كما تفعل أمي معي، تشاطرني شرب الشاي أيضًا لأن في رأيها: الشاي يصبح أمسخ لمَا تشربه وحيدًا. في ساقها اليمنى عدة أورام، قد تؤدي في أفضل الظروف إلى بتر في مستوى أسفل الركبة. ترينا الأشعة و تجلب سلمًا صغيرًا، تتسلقه بخفة، تمسح أنصال مروحة السقف لأن فيه (تفتيش)، تضحك كثيرًا لما أخبرها بالحاح أن تنزل لأنظف أنا و تقول: لا يصح. أقول لا شئ يحدث هنا يصح.
يومان و أمضي.
أستجلب الدموع، عساها تجلب روحي لي. أعيش كالذي يخوض في حلم، لا أدري متى ينتهي، لا تُشعرني أيامي بشئ، تمر و تتراكم، يصيبني تراكمها بالفزع، أليس هذا الوضع شئ موقت؟ ألن أستعيد أيامي و روحي من بين براثنه؟ و لما يصيبني التعب و الدهشة أعود و أمضي كما بدأت، خائضًا في حلم كثيف.
يشبه يومي غدي، لا أتعرف على نفسي في المرآة، حقيقةً و ليس مجازًا، لا أجدني في حديثي لنفسي ��أنها اختفت، هل هناك حالة مسبوقة لانسان كفت نفسه بغتةً عن محادثته؟ ذهبت خلال يوم و لم تعد؟ أصبح يعيش أيامه وحيدًا في رأسه؟ ألم تكن تكفي وحدة الدنيا كلها فأعيش وحيدًا أيضا داخل رأسي؟ بلا كلمة تؤنسني أو فكرة؟
يومان و أمضي.
كان يتناول طعامه في استعجال، يشرب ماء، الكثير منه، عادة طفولية، فلن يفيده ذلك الماء أثناء صيامه، يضع سترة ثقيلة لأن الشتاء يحب رمضان، يهرع لما يسمع الابتهالات الأخيرة، عندما يطأ أرض الشارع التي تتوارى خلف الضباب يسير في تمهل، يُسبح و ينظر للسماء، يستمع إلى وقع أقدامه، يؤنسه، يدعو الله، و يحاول ألا يفزع عندما تنبح جماعة الكلاب أمام القبور نحوه، يبتسم للصغير فيهم فيهز له ذيله، يكبر الأمل داخل صدره و يقول يارب، ثم يعاود تسبيحه، يجدد نيته و يصل للمسجد متأخرا، يُفلح في ادراك الركعة الأولى. يجلس في تسليم، يداه متشابكتين على خلاف أيادي من حوله المبسوطة الممدودة، يخشى أن يظن الآخرون به التقوى و هو ليس تقيًا، ينظر لهم جميعا، يمدون أيديهم أو يقبضونها، يلحون، يبتسم و يقول يارب، ريح بالهم. تؤنسه العصافير، الأنوار الخافتة و السكون الطيب للفجر، عندما ينسحب الجميع إلا من جماعة قليلة من الشيوخ يغادر جلسته بعد أن يبسط أقدامه أمامه، إلى بقعة محددة، قريبة من الجماعة لأن قرآتهم، مزاحهم، حديثهم القصير، يؤنسه. يمسك مصحفه، يغمض عيونه و يفتحها، يقرأ، يصيبه النعاس فيتمدد في أمان، يغالب نعاسه و يقوم، يقرأ: نسوا الله فنسيهم. تدمع عينه فيمسحهما سريعا. يقرأ: و لم تكن له فئة ينصرونه. ينكمش و ينظر للشيوخ من حوله طويلا حتى ينظر أحدهم إليه. عندما يحين الضحى يقوم بعد أن يقوموا، و ينتهي بعد أن ينتهوا، خلال أسابيعه الطويلة هناك لم يبادل أحدهم كلمة، كان يحرص على ذلك، لم يكن فقط يريد العودة إلى بيته. في خلال طريق عودته، يتحرى الشمس، مشهدها فوق النيل و من خلف الجزيرة البعيدة، يبتسم و يملؤه الأمل و يقول: يارب.
لا بأس، خير. يومان و أمضي.
وعد نفسه أن يتحدث عنهم و لكن نفسه غادرت، يتذكر على الأقل أسماءهم، عم سعيد، عم محمد، الشيخ عبد الله بمزاجه الحاد، و الشيخ رضا، كان الأخير ضريرًا، تلاوته أشبه ببكاء جميل، ربما أبصرها بعين أخرى.
مضت الشهور و مضوا، هل تعود؟
ربما كانت تلك سيرته، يخشى أن يظن الآخرون به ما ليس فيه، حتى و إن كان فيه، كان يقول: أُفضل أن لا أكون شيئًا على أن أكون مرائيًا. فأفلح.
يومان و أمضي.
أخدع الجميع، أسير في الطرقات المتعرجة، أقول: أنا شخص آخر، لا يتألم، أليس هذا أمر رائع؟ أنا واحد آخر لن يستخدم لفظة رائع بافراط، لفظة الحب أيضًا، لأنه قد نسيها، و الألم كذلك لأنه قد عرفه أكثر مما يلزم. أقول: أنا واحد آخر لا ينتظر شيئًا من الأيام، عندما يرى أملًا سيطعنه و لو كان ذلك يعني فناءًا، فما فائدة العيش إن كنتُ أقول أنا واحد جديد آخر كل يومين.
أخدع الجميع و لا أخدع نفسي لأنني لا أعرفها، حتى و إن قابلتها صدفةً في تلك الطرق المُتعرجة لن أدركها و سأمضي، في غرور كأي أحمق يُصدق ما يقول. سأقول لأصدقائي اللذين توقفوا عن السؤال لأني بعيد أنني سأكون أكثر قربًا، سأضحك بعيون عادية، و سأتحدث هذه المرة لأن صمتي يؤذيهم.
سأخبر أمي أنني لن أرفض لها طلبًا، أزور أقاربي و أنام بشكل صحي أكثر، أتناول طعامي معهم و أمارس الرياضة، لأن الشخص الجديد سيفعل ما ينتظره منه الآخرون، لن ترعبه تطالعتهم كما أصابت من رحل، سيبذل ما في وسعه لئلا يرى خذلانًا في عيونهم.
سأخبر أبي أنني سأتوقف عن رسم صور خيالية له، تجلعه أهدأ و ألطف و أكثر تفهمًا لأنه ليس كذلك، سأقبله كما هو، و على مضض سأكف عن الهروب من صورته التي تلاحقني، سأتوقف و بسرور أقابل مصيري، ربما فقد هو الآخر نفسه خلال الطريق و هذا ما تبقى.
سأسمع أحاديث أختي الطويلة و سأقول لها ألا تقلق، محاولًا غض بصري أنها مصابة بدرجة متقدمة من الوسواس القهري لأنها تخشى الأطياء النفسيين، و الناس و المستقبل بأكمله.
سيتوقف ذلك الجديد عن تذكرك، سيحاول نسيان الأمر برمته، سيعيش مع ألمه، سيواجه صعوبة كبيرة في فك عقدة أصابعه ليكتب، سيقول عبثًا: أنا أكتب كي أفهم نفسي، أكتب لأنه ملجأي الأخير.
ربما سيحاول ذلك الآخر طويلًا، سيدون أمورًا كثيرةً بلا معنى، صور من هنا و هناك، و يقول: هذه تدوينتك الأخيرة أيها الشخص الذي انتهى، و الذي لن يتحدث بتلك النبرة ثانية بعد اليوم.
يومان و أمضي.
فهل تذكرني؟
ربما قال : لو كنتُ غيري لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ
18 notes · View notes
tenebbris-blog · 1 year
Text
الفارق ربما بين ألمي الآن و أي ألم آخر هو أنني اختاره، طوعا، أو هكذا على الأقل أخبر نفسي، يعانقني بأذرع كثيرة - و ما أكثرها اليوم- وحدة و فقد و حب، أسمع صوت ما يتكسر داخلي. الألم يضع دموعا في عيني، و أنا لا أستطيع ذرفها، لا أستطيع البكاء، لا من فرط الألم، و لا لخجلي القديم من نفسي و ضعفي، بل لأني -مجددا- وحدي، كل شي سهل مع الشخص الصحيح، البارحة أثناء الحديث، ضحكت كثيرا و غالبتها أكثر، الآن أتمنى لو أني لم أغالبها، اتمنى لو بكيت. الألم يحطم أضلعي، ألم مادي، أستنجد عالما أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، و لكنه لطيف. أحاول السير كما أتعود عساني أرواغ ألمي، أراه في الزوايا، في السوق و في الكراسي الفارغة في مقهى ضحكت فيه مرة، في تجاعيد عجوز يتناول طعامه على الرصيف، في الظلام، لا يراه أحد و لا يعبأ به أحد، في قطة كسيحة لا أعلم كيف كتبت لها النجاة حتى اليوم، أغادر الشوارع المألوفة لأخرى جديدة لم يصبها الندى الأسير في عيني، بيوت أخرى، زينة رمضان و أغنيات، مقاهي أخرى، و عجائز آخرون لا يعبأ بهم أحد، أعلم يقينا أن الحياة لا تسير في خط مستقيم، أعلم أنها دائرة واسعة من التكرار، أعلم أيضا أنني أنتظر في كل منعطف مفاجأة، ما يدخل سرورا إلى قلبي، ألم أقل، أو حتى موت يضع يده الطويلة حول كتفي و يقول بنبرة حنونة: لم تكن الحياة لطيفة معك؟ حينها سأبكي، كم أود أن أبكي، أسير مفكرا، مدونا ما أراه في أوراق ضائعة، أتشاغل بالتفاصيل، أحرك عيني و أشد ظهري، أرفع عنقي لأبلغ هامات البيوت، أكتب كي أتخفف من أعبائي، أكتب و يطير الكلام و لا أجده، أكتب و أراه سخيفا بلا وزن، اليوم لن تحمل الحروف عذاباتي كنعش إلى المثوى، اليوم لن يحملها إلا كتفاي و ضلوعي، اليوم أتألم و أتقلب بلا جدوى، أريد أن أقول أنني أحبك، أريد أن أكررها حتى أنسى نفسي فتنساني الهموم، يفلح الأمر قليلا، كم أود أن أكون معك، يطول الليل، يتأخر الفجر، و يختفي البحر حتى، أين ذهبوا؟ و أين ذهبت لغتي؟ أكلها الألم أم حرقها القلق المضطرم في أحشائي؟ ربما في المنعطف القادم، أجد السرور و الرضا و الراحة و السعادة نفسها، أجد الطريق الذي يهدي التائهين أمثالي، طريقا أعرفه لأنني أصبحت من الوحشة ما لا أطيق معها ما هو غير مألوف، أريد أن أسير في الشوارع نفسها، بقلب قوي، بعين لا تأسر دمعا. أفتقد السلوى في الدعاء، ماذا أصابني؟ أنظر لوجهي في المرآة، أحدق لأتأكد أني هنا، أنا لستُ طيفا أو شبحا يسير بلا وزن، أنا هنا، لي وجه و عيون، لي اسم و عائلة، و أصدقاء، جميعهم بعيدون، بعيدون جدا، و أنا هنا، لكني هنا، بعيد عنك أيضا. هل تُلام الأشياء على طبيعتها؟ البارحة كنتُ حيا، أما اليوم فأنا ألم يسير و يتنفس، ربما مع الصباح و ناسه أتذكر، تلحظ عيني الحقيقة الخفية في ظلام الليل الثقيل، هل تُلام الأشياء على ما جُبلت عليه؟
7 notes · View notes
tenebbris-blog · 1 year
Text
جرب، اذهب و اجلس في مقهى ما، المقهى ذا العشر مرايا، انتحِ بنفسك زاوية، احتسِ شايك حتى ثم ابدأ، اخلع نظاراتك و ابدأ، حدق في الوجوه كلها و انتظر شيئا لا يظهر، هل نرى أنفسنا بعيون غيرنا؟ ردود فعل شتى، كيف ينظر كل واحد من هؤلاء إلى نفسه؟ يتجاهلك، يحاول الاستمرار لعلك تسأم، و لكنه لا يعلم أنك عتيد الصبر، تواصل التحديق بوجه خال من الانفعال و الشعور، فلا يمكنه التخمين بالعلامات بم يفكر هذا الذي ينظر لي، هل يرى داخل روحي؟ تتثاقل شفتاه و لا يستطيع الحديث بحرية مع من يجاوره، يبدأ في الاشارة نحوك بشكل ما مع زميله، لا تنفعل و لا تهتز، أواصل تحديقي، يضحك قليلا في عصبية و زيف، زوايا فمه ترتعش، يتشنج حاجباه على نحو غريب و تبدأ عيناه في بالتحرك بمحجريهما، يُخيل لك أن وجهه اتخذ شكلا آخر، يقوم فجأة و يتجه نحوك، يقف قريبا من وجهك حتى تشعر بأنفاسه الحارة، يسألك بنبرة جامدة: لم تنظر لي؟ يا هذا! أنا أحدثك، لا تنظر لي هكذا. ولما لا يند عنك ما يوحي بالتغيير أو الاستيعاب يرتجف قليلا ارتجافة شاملة و بغتة يقوم بلكمك. تسقط عن كرسيك فتعاود النهوض، تمسح أنفك الدامي و تجلس، و من جديد توجه عينيك نحوه، تسددها نحو الفزع العميق في عينيه. يصرخ بك، يمسك ياقة قميصك و يدفعك للخلف و يهم بلكمك بقبضة أخرى. يصيبك الدوار، تكاد الدنيا أن تُظلم، تقوم فتعدل من قميصك و تبصق ضرسا في كف يدك و تضعه في هدوء بجيب بنطالك، تمسح الدم السائل من وجنتك و فمك. تجلس و بعينين لا تريان الكثير تواصل العبث، تنظر إلى موضع عينيه. يبدأ في سبك، والداك، بلدك، ربك، دينك، حتي نوعك و عرقك، يطال السباب كل ما يمكنه منه الغضب، هل يمكن أن تكون هذه هي صورة الانسان الحقة؟ يركلك فتسقط، يبدأ في دهسك، ينكسر ضلعٌ و آخر، يتناوب معه الزميل المنساق في هيستيريا الجنون المحموم لصاحبه، تتساءل ما الذي أصاب رواد المقهى جميعا؟ أي جمود هذا؟ و كأنهم لا يرون ما يحدث أمامهم، كلٌ يشاهد بلايا غيره آملا ألا تجد طريقا إليه إذا ما شارك. يصيبهما الانهاك أخيرا، لا تحملك قدماك على الوقوف فتستند بظهرك إلى الحائط، تعيد تنظيم أنفاسك المبتورة و من بين اللون الأحمر تعاود الجرة، تنظر له ببساطة. ترى بالتدريج انهياره، ينحني ظهره ويمسك بركبتيه، ثم يرتطم بالأرض في عناق كلي، يضع يداه أمام وجهه مغطيا عينيه، يبدأ في الانتحاب، يبكي و ينشج بصوت البشرية جمعاء، يهمهم و يلغط بالحديث في كلام غير مفهوم، يستغيث ويدعو الرب الذي سبه منذ دقائق قلائل، يهتز و في حرقة يبدأ في الاعتذار، لي، لنفسه و لكافة الأشياء، لأنه في الأصل كسول ضعيف، لم يحاول و لم يثابر، منهزم و مستسلم، لا يثق بالعالم و نفسه، يواصل رص سلبياته جنبا إلى جنب حتى أقام جدارا. بعدها يكفكف دمعه و ينظر لك بثبات جديد، العين بالعين و الأرواح تتآلف، ما أشبه الجميع بتلك اللحظة. تتعاونان على الوقوف، يجلس كل منكما بكرسيه، تضحكان كأصدقاء لفظتهما الحياة في بصقة واحدة. ما دمنا نتنفس سنحاول، أليس كذلك؟ كل يوم فرصة وليدة، هلا كففنا عن وئدها في التقلب الحزين بالمضاجع؟ تتفقان في الحفاظ عليه رغم صعوبة احتواءه و حصاره، ذلك الشئ العجيب، تتحدث عنه كثيرا، أشقاك و أعانك، تتفقان على الحفاظ على الأمل مهما كان، يعانق كل منكما الآخر، يربت على كتفك و يشجعك، تنفصلان في النهاية فتعود كما بدأت إلى كرسيك في راحة و ألم. ترتدي نظاراتك و تضع الحساب تحت كوب الشاي و تغادر في مشية عرجاء و قامة تجاهد لتستقيم المقهى المهجور منذ عشرين عاما، تغادره وحيدا، تسع مرايا مكسورة و واحدة سليمة لامعة تركت تراب همها فوق كتفيك.
8 notes · View notes
tenebbris-blog · 1 year
Text
كتابة بالعصف الذهني: حلم|كابوس.
أغنية واحدة تتكرر، تضرب الموسيقى العالية جدران المكان الواسع فتهز سماء الغرفة القاصية، يشدو صوت غير واضح بينها، تلفُه الموسيقى و تكممه فلا تتميز الحروف منه. الطبقة الأولى و هي حكاية ترويها الطبول و الأبواق و المزامير، في طريقي الطويل المظلم أركض، سيقاني الطويلة مصممة للعدو السريع، أتلفت لليمين و اليسار فلا أبصر إلا ظلالا شبحية لضوء القمر الكبير. الطبقة الثانية و هي حكاية الكلمات ذاتها، تتراص الحروف فتصبح كلاما، فجملا، فقصة فمعنى، فحياة و فكرة، ففكرة أخرى، وحروفا ثانية و جملا ثالثة و معنًا آخر و بفعل الصدى و فراغ نفسي تتكاثر المعاني و الأفكار و الكلمات و تتداخل حتى تطوقني و لكني أستمر بالركض إلى الأمام فهذا اتجاه الركض الذي جُبلنا عليه، أنا و الزمن، في سباق، لن ينتظرني و سأنتظره بفعل اللهاث المتواطئ، أركض و أجري و أعدو، مترادفات بفوارق طفيفة، القمر الكبير أكثر من اللازم، بوجهه المليئ بالبثور، ينظر لي و لا يتبعني، اركض يا هذا و أنا سأشاهدك من عرشي في سقفك. مزيج الموسيقى و الكلمات، هما معا يقصان حكاية ثالثة مختلفة و فريدة عن حكاية كل منهما بمفرده، و بهذا ينبثق المعنى الجديد، لا أتساءل أبدا عن جدوى الركض لأنني مشغول بدنيا المعاني و الكلمات، لماذا أركض و ممن؟ فقط أستمر، لا أنظر إلى الخلف أبدا، فقط نحو اليمين و اليسار، تتوالى أعمدة الإضاءة كل سبع خطوات واسعة، تمر سريعا بضوئها الأصفر الخشن، من حولى تخرج ثلاثة ظلال: ظل الشخص الذي هو أنا و قد نسيته، ظل الشخص الذي أريد أن أكونه، و أنا لا أريد أن أكون أحدا، و ظل آخر أكثر كثافة و هو ظلي الآن، لأنني هنا في غرفة الحلم التي تتمدد و تتسع، أنا ثالث آخر خائف يجري، ممن و لماذا؟ لا أتساءل، فقط أركض، منذ متى؟ لا أعلم، ينبهني التعب في سيقاني أنني قد أسبق الزمن بوتيرتي تلك، و لذلك و بفطرة العدائيين أعمد إلى تغيير أسلوبي في الركض، أمد خطواتي، أفرد ساقي على وسعها فيأتي العمود بعد أربعة فقط. أركض و تدور ظلالي حولي، يتمدد الصمت فيضع وزنه الثقيل كملاكم فوق أجزاء حلمي فيغادر القمر و يزداد المكان ظلاما، أقول حسنٌ فعلت يا صمت، الآن لن يتمكن بصري من خداعي فيصور لي خيالات ما أحب على جوانب الطريق، حسنٌ فعلت يا صمت الآن فقط يمكنني الركض غير نادم أنني أضيع حياتي  و فرصي و إمكاناتي المُفترضة. الزمن و الصمت و الظلام، أنا و ظلالي الثلاث، و الطريق الطويل أيضا و كذلك أعمدة الإنارة، كل ليلة حتى يأتي الصباح فيأخذني من بينها واعدًا كولي أمر، سأعيده لكم غدا كما آخذه الآن، أسير معه مطيعًا يدًا بيد، بإرادتي تلك المرة أقلد ما حدث في حلمي بحذافيره، لا أتناول إفطاري لآخره، أركض فوق درجات سلمي على عجل فأنا متأخر، تنكسر شعاعات الشمس خلال قطرات ماء السحب، لستُ طفلا لأنبهر بقوس المطر ذي السبع ألوان، أذهب إلى عملي لاهثا متعبا، لأجلس إلى مكتبي رفقة الزملاء، رجل كبير و سمين يتنفس بصوت عالٍ، يأكل بصوت عالٍ، و يتحدث بصوت عالٍ، سأقتله ذات يوم، آخر مهندم في بذلة رمادية، كل شئ به مثير للريبة حتى هدوءه، جريدته و فنجان قهوته و حقيبته التي تقطر ماءًا، يجلس جانبي، و ثالث يشبهني و لم أسأله يومًا عن اسمه و عمله هنا، في غرفتنا ذات الأربعة مكاتب التي تضيئها أنوار الشمس صيفًا و مصابيح مكاتبنا الصفراء شتاءًا، نأتي كل يوم لنملأ أوراقا، من الثامنة حتى الرابعة باستراحتين للغداء و تدخين السجائر، كل شئ يسير مع زمنه المحدد، نصف ساعة للحمام، و عشرة دقائق لتبادل النميمة و دقيقتين لتفنيد النساء. عندما ترن الساعة أربع مرات نقوم من فورنا، نغلق الصفحات أمامنا، يرتدي من خلع سترته منا سترته، نمسح أيدينا بجبيننا، نلقي السلام على بعضنا و نغادر، نركض نحو مواقف الباصات أو محطات القطار، فى الرابعة و الرُبع أتزاحم رفقة عشرين شخصا، يلكزني كوع فأكور قبضتي و أرميها كحجرة في الزحام، يركلني حذاء مدبب فأطعنه بشتيمة، نتمايل معا و نزمجر في وجه محصل التذاكر معا، نتبادل حكايات الغلاء و أسعار اللحم و الدجاج، و عندنا يتساءل صوت مجهول الهوية و غير محب للوطن أيضا عن السبب نصمت جميعا، يخيم الصمت علينا بوزنه الثقيل كملاكم، فيغادر الحنق، نضع أيدينا في جيوبنا ونعطي الكمسري حق تذاكرنا، و أنا أتمايل معهم، أثناء توقف الباص كل سبعة أمتار فتسقط ورقة من على شجرة أُدرك، كما أدركوا جميعا أن تزاحمنا ما هو إلا عناق جماعي، و لما ندرك هذا نستحي و نتباعد، و نزعق في أصوات خشنة في الهاتف، من الشبابيك، و من فوق الأكتاف، عندما تأتي محطتي أسقط أنا أيضا و لا أدور لأودع البقية فلا وقت للنظر إلى الخلف، الحياة سباق و يجب أن أترك مالا للأولاد الذين سأعود إلى المنزل لأضربهم بحزامي الجلدي لأنهم يثيرون ضجيجا، أو لأنهم لم يحلُوا الواجب، أو لأي سبب كان فتخبرهم أمهم أنني فقط متعب من العمل، أنني سألعب معهم غدا و أنني أيضا سآخذهم إلى المصيف في يوليو المقبل، فيصمتون و يسكنون و يعودون إلى أسرتهم بينما تنام أمهم جانبي على الناحية الآخرى البعيدة جدا و الباردة جدا من السرير، أُطفئ الأباجورة و أرتدي البيجامة، أشد اللحاف فوقي و أطالع السقف، أخبر زوجتي قبل أن أنسى أن توقظني في السابعة، تتردد وكأنها تريد أن تبوح بسر ما فأغلق عيني غالقا أمامها الفرصة، فالحب بيننا مات بعد طفلنا الثالث. 
رجعولي الماضي، بنعيمه و غلاوته و بحلاوته، وبعذابه و بقساوته
في زمان آخر غير الزمن الذي يركض معي، عندما كان الحبُ كلمة سهلة، و عندما كان الوطن كلمة غامضة نشعر بمعناها فقط في طابور الصباح أو أثناء تجمع العائلة على مائدة الغداء، و ذات صيف، عندما كنا نحب الصيف و نكره الشتاء لأنه بارد جدًا و كئيب، و صعوبة المذاكرة والسهر به في مواجهة الدفئ الطاغى الساحب للنوم اللذيذ، عندما كان الفجر ميعادا بعيدا يختبأ وسط ظلام الليل الذي لم ندرك طوله بعد، عندما كان الأرق كلمة من ثلاثة حروف و الخوف هو عصا المعلم أو الأشباح المختبئة في الخرابة المهجورة في الشارع الخلفي. في ذلك الزمان كنت أجلس، مستكينا، ظهري إلى العمود الصغير في الصالة، أطالع ركبتاي المكحوتتين بعد يوم طويل من اللعب، أمامي يجلس أبي، شابا في ملابسه القطنية البيضاء، بعينيه القويتين، لم تكونا قوية أو صارمة الآن و هذا يفسر جلوسي مسكتينا أمامه، سبب الهدوء و النظرة الحالمة في عينه هو الصوت الرخيم الصادح من التلفاز، يزعجني صوتها و يزعجني عدم فهمي للتأثر العميق الذي يصيبه، هواء ليالي الصيف الرقيق يأتي بحرية من باب الشقة المفتوح مدى وسعه، شباك المنور الأول المُظلم مفتوح أيضا، لم تكن الكنيسة المجاورة وقتها قد أقامت جدار طويل بيننا و بينها فكان بإمكاني -نهارًا- من رؤية الجزيرة البعيدة التي تشبه نصف قلب. يدندن أبي بحزن حقيقي و شجن، فكروني، و بين مقطع و آخر كان يرمي نظرة -لم أفهمها كطفل- نحو المبطخ عن يميني، كانت أمي تقوم بما تقوم من عمل لا تعرفه إلا هي في المطبخ، الأب في العمل و الأم في المطبخ، ألاحظ أنها كانت تتعمد اسقاط الأواني أثناء طقسه "الأم كلثومي" هذا، فيقوم هو برفع الصوت أكثر، يدندن بصوت أكثر حزنًا و شجنًا، فكروني، فتُسقِط هي مزيدًا من الأواني، و هكذا من إزعاج رهيب حتى لطفل مثلي يعيش صخبًا، أمِلُ متجاهلا بسمات أبي الصافية و الفرصة الكبيرة السانحة لطلب ما تسوله لي نفسي في لحظة الأُنس تلك، في المطبخ كانت أمي وسط فوضاها المُرتبة تمسح ظلال بسمة صافية أخرى لما لمحتني، تسألني إن كنتُ أريد طعاما و لما أجيبُ بلا تأمرني بأن أخرج، لا شئ إذا أفعله في هذا البيت، أتذكر طائرتي التي أصابها حادث أليم و انهيار كارثي اليوم لتسقط في مثوى كل الأشياء الضائعة، كرتي البيضاء، دمية أختي، و جميع حاجات أهل البيت بأدواره الثلاث مما أرادوا لها النسيان و الاختفاء.
أقف فوق طوبتين كبيريتين غير ثابتتين أنظر بحذر داخل الظلام العميق للمنور الآخر، هناك حيث يختبئ رفقة حاجاتنا الضائعة، شتى أنواع الجن و العفاريت التي لها عيون من نار، أفكر مكروبا عن الأهوال التي تواجهها طائرتي المسكينة الآن، أمدُ رأسي أكثر علي أراها فاطمئن، و لأن رؤوس الأطفال أثقل من أجسادهم كما تكرر الأمهات دائما تنزلق قدماي من فوق الحجارة الغير ثابتة، رأسي لأسفل و قدمي بالأعلى، أصرخ عالياـ بكل قوتي، و أم كلثوم تردد.
و افتكرت فرحت وياك قد إيه
أطالع حجارة الجدار الصلدة، تعبر ببطء غريب، يمر الوقت بشكل آخر، أبطأ ربما من حصة الدراسات المُملة في المدرسة، هل ذاته الوقت الذي يمر سريعًا جدا عندما أكون معها. مارًا أمام الطابق الأول أبصر خلال شباكه الخلفي المفتوح عمي الأصغر، بشاربه، الشارب الرفيع الذي اعتدت أن أؤمن أنه سبب لثغته في حرف الكاف، كنت أراه في حلة أخرى، هي ملامحه، لم يكن مضحكا كما كان عندما أثير غضبه ليشتمني بشتائم تُبرز لثغته لأضحك أكثر، لم يكن حنونًا كما كان حينما أنقذني من كلب بيت الصيادين، كانت ذرعاه الطويلتان و يداه القويتان حول الرقبة الضعيفة الضامرة لجدتي، كان يخنقها، يتسع فمها فينافس في اتساعه عينيها الفزعتين، تحاول الصراخ.
بعد ما صدقت إني قدرت أنسى
جدتي مولودة يوم العاشر من يونيو عام اثنين و أربعين، أي بعد يوم من ميلادي أنا، كنت أحضر لها الفوار من الصيدلية لأنها مصابة دوما بالحموضة، ماتت بسرطان المعدة بعد أن مات جدي بسرطان الرئة، لم يخنقها عمي أبدا كما أعلم.
فكروني
في المنور، الرطب، رائحة عطن و تراب مر تتخلل عظامي و تكبلني، يتعاظم الظلام فتتسع حدقتاي لأبصر ما يبيض له شعري ويطول له جزعي، أحاول الركض و لكن المكان ضيق و خانق، رجال طوال عماليق، وجوههم ممسوحة و لا يرتدون الملابس، بلا أذرع، أو بلا أنصاف سفلية، أو أنصاف سفلية فقط، غابة مخيفة من الأشلاء البيضاء، في الأعلى، كان القمر الذي اعتاد أن يسير معي يشاهد في حياد، و بدت السماء لأول مرة كسقف بعيد المنال، بنجومها الجميلة، أصرخ طلبا للمساعدة و أسمع صوت تساقط الأواني، أمي هي أملي، فهي دائما ما شعرت بي، ستاندي أبي ليأتي و يحملني بين ذراعيه القويتين، سيخبأني في المكان الأكثر أمانا في العالم، سريرهما، لن أخبره أنني رأيت عمي يخنق جدتي.
بعد ما قلبي قدر يسلاك و يقسى
اسمها يارا، نذهب معًا إلى درس الإنجليزية، مادتي المُفضلة، نعود معًا أيضا، كل الطرق تكون طويلة و مملة إلا الطريق الذي نسير به معا، رغم أنني أختار الطريق الأطول إلا أنه ينتهي سريعًا، ستأتي غدًا كالعادة، و ستتساءل عن غيابي.
 كلموني تاني عنك 
في الأعلى، تكرر أمي اسمي مرتين، أين أنت؟ يرفع أبي الصوت أكثر، و بين الآهات الطويلة يخيل لي أنني أسمع صوتًا شبيها بصوتي، يجيب، أهز رأسي، كلا، تسأله أمي شيئا، أن يذهب فيحضر حلوى.
تاتي يارا في الغد، تنادي بصوتها اللطيف، أسمعني و أنا أردُ النداء، أسمع وقع أقدامي المتلهف على درجات السلم، أسمع تمهلي قبل أن تراني بلحظات كي أكون هادئًا أمامها.
يوم بعد يوم، أزداد طولًا و بأسًا، و تزداد السماء ابتعادًا، لا تبدو الأجساد الطويلة طويلة بعد الآن، هم أشباه البشر ممن أعرف، كل ليلة نركض طويلا بعد أن اتسع المنور ليصبح طريقا، لم يعد القمر يتحرك معي، أصبح وجها كريها مليئا بالبثور، كل ليلة أظهر لأنا الذي حصل على كل ما هو لي، في الليل فقط و أثناء نومه أركض جانبه رفقة الأجساد الطويلة، نركض في الظلام.
يوم بعد يوم، تتسلل ذاكرته إلى رأسي و يتصاعد شعوري بالخوف و إلحاح الركض إلى رأسه.  
و في انحناءة مفاجئة للطريق وجدتُ بابًا حديديًا، أفتحه كطوق نجاة، و أغلقه فورًا من خلفي، الشمس تبهر عيني التي اعتادت الظلمة كثيرا، الزهور و رائحتها الناعمة تمسح ذاكرة مرارة تراب المنور، شعاع هارب من بين السيقان الطويلة يسقط، في مكانه تمامًا، مكتملا، رائعا، فوق عينيك، أجمل شئ رأيته في حياتي.
أنسى أنني أنا لستُ أنا، أنني عشتُ حياتي رفقة الأشياء المنسية الساقطة سهوا أو عمدا في المنور، رفقة "المانيكانات" التي ترتدي ملابسا ليست لها في محل عمي الآخر الذي لم يخنق جدتي .
صحوا نار الشوق في قلبي، و في عيوني
بجانيك، في هذه الباحة أدرك أن حياتي ذات معني، أنني أملك حياة في الأصل، و أدرك اللوعة التي غنى بها أبي، أدرك معنى الحروف كلها، المعاني الأولي للموسيقى و للأصوات، ولمزيجهما معًا، لا أعرف الكثير عنك، أعرف أني أحبك، و أعرف أنني هنا، معك في هذه الباحة و الشمس و عينك، سعيد.
و افتكرت كمان -يا روحي- بعدنا ليه
تهزني يد برفق، تكرر اسمي، أبتسم لسبب ما و أفتح عيني، أرى وجهها، وجها غير وجهك و عينًا غير عينك التي تلمع بضوء الشمس، تنمحي الابتسامة من فوق وجهي، تخبرني أنها السابعة.
أرتدي ملابسي في غير تعجل، أتناول افطاري لآخر لقمة فأدرك استيقاظ الأولاد، أراهم، أتأمل وجوههم، أنظر لزوجتي و أشعر أنني لا أعرفها، أعرف اسمها، أهلها، متى تزوجتها، أعرف الكثير عنها و لكن من هي؟ ماذا تحب و ماذا تكره؟ ما الذي فعلته بهم و بي؟ حياة من تلك التي أعيشها؟
جُم بهمسة و غيروني 
أنزل فوق سلمي في تمهل، يخطر ببالي هاجس ما، أنظر خلال النافذة الضيقة المطلة على المنور، لا شئ بالأسفل غير مجموعة كبيرة من مواتير الماء، أكمل نزولي حتى أتوقف في المحطة، لم يفوتني شئ، الباص أتى في ميعاده، لماذا إذا أركض كل يوم؟ أذهب إلى عملي و لم يكن شئ قد تغير، لماذا أنتظر تغير الأشياء أصلا؟ غرفتنا ذات المكاتب الأربعة، جميع رفاقي  كما هم، شاخصا في القلم بين يدي، أدرك أن الملل هو الحروف التي أدونها، أدندن بلا سبب محدد، و افتكرت كمان ياروحي بعدنا ليه، وبين لحظتين أجد صمتا مسموعا و قد أرخى سدوله، توقف السمين عن ضجيجه المعتاد، وتوقف الأستاذ عزيز عن إثارة الريبة، وتوقف الثالث الآخر عن مونه مجهولًا لدي، ضحك الواحد منهم تلو الآخر حتى تبدلت ملامحهم.
عائدًا إلى بيتي أقرر أن أسير لأتجنب الركام البشري المُنفر في الباص. لا أتذكر آخر مرة سرتُ فيها لأنني أتفاجأ بحديقة جانبية لم ألحظها قبلًا.
باب حديدي.
أزهار و أغصان شجر تتشابك.
و بعد عمرٍ كامل من الضياع.
و فوق مقعد خشبي طلاه أحدهم بلون أصفر فاتح.
كنتِ هناك.
لا أحك لك عن نفسي التي أسقطتُها بالخطأ في المنور، نفسي التي وجدتها في آخر كابوس مُضنٍ ركضت فيه حياة بطولها و عرضها.
لا أخبرك أنكِ أنتِ السبب في ذلك.
لا أخبرك بأي من هذا، لأن في المنزل البعيد، تسكن زوجتي رفقة أولادي الثلاث.
كانوا ليه بيفكروني
7 notes · View notes
tenebbris-blog · 1 year
Text
في حياة أخرى، أو في وقت لاحق في الحياة ديه، أتمنى أني أبقى بارع، أو قادر على الأقل على العزف، عود، بيانو، تشيلو أو كمان.
Lonely Streets - SoundCloud
Listen to Lonely Streets by Deryn Cullen - Cellist on #SoundCloud
5 notes · View notes
tenebbris-blog · 1 year
Text
Lonely Streets - SoundCloud
Listen to Lonely Streets by Deryn Cullen - Cellist on #SoundCloud
5 notes · View notes