Tumgik
#diaryofu
artemisthehuntress95 · 2 months
Text
عمري ما تمنيت الموت قد الفترة دي، مش تمني درامي أو حاجة، لا تمني هادئ متبصر مدرك أني أخدت فرصتي في الحياة وأدائي لم يكن جيدًا ومن الأفضل الرحيل بهدوء.
94 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 2 months
Text
أمل عجيب يمنحه التحديق في العيون الميتة
صباح الأمس أدركت أنني حدقت في عدد رهيب من عيون الموتى. حتى من قبل استلامي التكليف فأنا أطالع عيون الموتى، أما الآن فجزء أساسي من توصيف مهنتي هو تشخيص الموت واستخراج تصاريح الدفن. أتجه أول ما أتجه إلى العينين، أبحث عن آكد علامة على الوفاة والتي تنبئ عن توقف جذع الدماغ عن أداء وظيفته. أقول أني صرت أخمن وقت الوفاة من مجرد تأمل الحدقات الميتة.
إذا اتجهت لمعاينة متوفى لتوه، فإن عينيه يكون فيهما موت أقل. أعني أنها تبدو أقرب لعيون الأحياء منها للموتى، لا يفرق بينهما إلا شلل إنسان العين، أما بالنسبة لأهل المتوفى فالأمر محير. كثيرًا ما سألني أهل المتوفين حديثًا إذا كانت الوفاة أكيدة لأن الجسد ما زال دافئًا وفي العيون "نظرة".
وإذا عاينت متوفى فاتت على وفاته ساعات؛ تختفي تلك النظرة. أستطيع تبين تلك الغلالة البيضاء التي تغشى العينين وتنتج من تحلل بروتينات القرنية. كانت كتب الطب الشرعي تسميها "عين من زجاج". وأنا كنت أحفظ عن ظهر قلب كافة التغيرات التي تطرأ على جسدٍ ميت ساعة تلو الساعة، لكن رؤيتها بعينيك أمر مختلف.
أقول أن للموت هالة عجيبة، اعتدت عليها لأن محتم علي أن أعتادها، لكنها أحيانًا تفاجئني. تخبرني زوجة متوفى أن زوجها أعد كوب الشاي الدافئ على الطاولة بنفسه قبيل موته بلحظات، وعليه فيستحيل أن يكون ميتًا وربما هي مجرد غيبوبة. يستحيل أن يكون الانتقال من حالة الحياة لحالة الموت بهذه السهولة والنعومة، أين الصدع الرهيب في نسيج العالم الذي ينذر بالموت؟ أنا لم أره قط.
أتذكر أني عاينت جسد سيدة ماتت مختنقة بالبخور. كان يومًا شديد البرودة في يناير ولما هممت بالاقتراب منها وجدت أن جسدها أكثر دفئًا من جسدي، وفغمتني رائحة البخور حتى كدت أبكي. كيف لهذه السيدة النائمة الدافئة فخمة الرائحة أن تكون ميتة؟ تشعرني معاينة الأجساد الميتة بأني أقف على بوابة خرافية في عالم الإغريق: أني أتلصص على العالم السفلي. وهذا وصف غير دقيق؛ لأن كلمة بوابة تشي بانتقال حاسم وحدود معينة ومرسومة بعناية، أما الموت؟ أنا أستطيع الجزم بأنه حدث لكني لا أستطيع فهم أي مما يحيط به أو يحدث حوله وعبره، وأستطيع بالكاد الإمساك بلحظة تتوقف فيها الوظائف الحيوية بينما يواصل الجسد التغير والانتقال من حالة إلى حالة ككل الأشياء في العالم.
أقول أني حفظت التغيرات التي تعرض للجسد الميت عن ظهر قلب، لكن رؤيتها أمر مختلف. في الواقع أنت لا تستطيع التوفيق بين الحسم في كلمة "الموت" وبين الاستمرارية في كلمة "تغير". أخبرتني ابنة متوفى كانت تتعهد جثمان أبيها لساعات قليلة بعد موته أنها لم تتصور أن الموت "يظهر ببطء"، وأنه لما توفي ظل كما عهدته ساعة، لكن الآن -وبعد مرور ساعات- فهي تفهم أنه بالفعل رحل.
تصعّب علي مطالعة الأجساد الميتة القبول بأي نظرية تختصر الحياة في البيولوچيا. في واحد من كتب العلوم المفرقعة التي قرأتها طفولتي عرف المؤلف الحياة بأنها "سلوك تبديه المركبات العضوية بعد أن تصل لدرجة معينة من التعقيد". علق هذا التفسير في ذاكرتي ردحًا. الحياة مجرد أثر جانبي للكيمياء. شئ عجيب. وعليه فكل جسد أراه قد توقفت المركبات في جسده عن إظهار ذلك الأثر الجانبي، ومضت تتغير إلى صورة أخرى. حتى تلك "النظرة الإنسانية" في العيون أثر جانبي وتصور تسبغه عقولنا على ما نرى. "النظرة" ليست في عين الميت لكن في عيني أنا.
واحد من المفاهيم التي لا أنفك أفكر فيها، أو "إمبراطوريتي الرومانية" كما يقال، هي الqualia. يسأل فلاسفة الوعي الذين يرفضون اختصار الوعي والحياة والظواهر الإنسانية في مجرد شوية هرمونات ونواقل عصبية، يسألون: بالفعل، يمكن للعصي والمخاريط في الشبكية أن تنقل اللون الأحمر لقشرتك المخية، فترى اللون الأحمر، لكن من أين يأتي الشعور بالحمرة؟ من أين يأتي النفور أو الولع باللون الأحمر؟ كيف تنبثق خبرة الحياة من مجرد نواقل وخلايا عصبية. لا يمكن تفسير كل ذلك من مجرد الشبكة العصبية، بل وحتى لا يمكن قبول الادعاء القائل بأن الوعي سيرى تحت المجهر حين يتقدم العلم بالصورة الكافية.
تحيلني رؤية أجساد الموتى للتمسك بأن الوعي قيمة لا يمكننا الطمع في تفسيرها بأي أدوات متاحة من علم أو تجريب. تأتي من ذات البوابة المراوغة التي ينتقل منها الحي إلى الموت: بالتدريج، ببطء، بشكل لم تستطع البشرية فهمه على مدار تاريخها. الوعي، الحياة، الروح. تلك الظاهرة التي تبدو دخيلة على طبيعة العالم، تظهر لوهلة؛ تستطيع استيعاب وتفسير العالم حولها، ثم تغادر في ظروف غامضة، تاركةً أكوابًا دافئة من الشاي، ومشاريع لم تنته، ونظرة في الجسد الميت سريعًا ما تخفت بدورها.
قرأت مرة تقريرًا عن طبيب بيطري يعالج أبقار الأنجوس اللذيذة، وعن شعوره بغرابة شديدة من حقيقة أنه يعالج البقرة ويعتني بها ويتعلق بها ثم يسلمها للجزار في اليوم التالي، وفكرت حينها أني لو كنت مكانه كنت سأشعر بانعدام المعنى لما أفعله، ما معنى الكفاح لحفظ حياة كائن مصيره الموت؟ الآن أمارس الطب البشري وأدرك أن اختلاف عملي عن عمل ذلك الرجل طفيف، يمكن لوجود الموت أن يغري الطبيب/ة بمسائلة معنى عمله، حتى جودة الحياة التي يحققها لن تكون كافية لإرضائه أمام الوجود القاهر والسلطان الرهيب للموت. نهاية كل إنسان هش ومعقد وفائق الأهمية بالنسبة لطبيبه.
لكن التأمل في ظاهرة الوعي، في غرابتها وفي عجز الإنسان عن تفسيرها. في الهالة العجيبة للموت، في أنه مراوغ حتى في تشخيصه، وفي استمرار الجسد البشري في تغيره حتى بعد زوال الحياة منه، كل ذلك قد يدفع الطبيب/ة لافتراض مماثل بأن الوعي والحياة اللذان غادرا الجسد يتغيران بالمثل، ربما يذهبان لمكان أتيا منه، ربما يتغيران إلى صورة أخرى، المهم أن هذه الاحتمالات قد تنقذ الطبيب من اليأس، ومن الفكرة المقبضة بأن الإنسان ينتهي كما ينطفئ فتيل المصباح.
لم أعتقد -في أيامي الحالية التي أمررها بصعوبة- أن أنتزع فكرة آملة من عيون الموتى. حتى الجسد الميت لا يتوقف عن التغير، وحتى النهاية الكبرى ربما ليست بنهاية. أقول لنفسي إذا كانت الأشياء في هذا العالم دائمة التغير، فكيف يسلم الواحد بالهزيمة ويعلن النهاية؟ هذا العالم لا يعترف بالنهاية، بل بتغير الحال إلى حال أخرى، وعليه، فربما ما أظن نفسي فيه من خواء شامل ونهاية للأحلام، ما هو إلا حالة انتقالية تفضي إلى غيرها.
لأن حتى الموت عملية انتقالية، فكيف والإنسان ما زال على قيد الحياة؟ كيف يعلن النهاية و ما زال فيه وعي وفي رئتيه نفس وفي عينيه نظرة؟
87 notes · View notes
Text
عايزة أعرف شكل الحياة بدون كل هذا الخوف. هل هناك بشر قادرون على ألا يثير كل شئ ذعرهم؟ أنا بخاف من كل شئ. نفسي أكون مبالغة. بس أنا أحيانًا بتساءل أنا إزاي أيامي بتمر، إزاي بكلم الناس وبقابلهم وبمتحن وبقف في المستشفى بدون أن أجن تمامًا أو يتوقف قلبي من فرط الرعب. إزاي بكتب وبقبل فكرة أن هناك من تقرأ، أو بكشف على مريض، أو بقابل ناس لأول مرة. والله أنا أشجع من أخيل ومن جنود اليابان في الحرب العالمية الثانية. مكالمة تليفون تذهب بي كل مذهب، مقابلة مع صديق/ة شفته قبل كدة ألف مرة بحس أنها اختبار. كل شئ شاق. الحياة بطبعها شاقة لكن كيمياء دماغي تضاعف العراقيل. تحول بيني وبين اجتراح الفرص. تقنعني بالاستسلام من قبل أي محاولة. بل تقنعني أن المحاولة ستجعلني أضحوكة، ستكون ملهاة. وأن علي التواري خجلاً وعارًا.
منذ السنة وأنا أقرأ لإيلاف قريش في كل فريضة، بإلهام من نسختي الصغيرة التي حاولت مداواة رعبها بالله. تذكير يومي بأن المشكلة قديمة، وأنها لم تحل، وتفسيرًا لكل شئ؛ لأني أحيانًا أتطلع لحياتي وأتساءل أين مكمن الخطأ، وأنسى تمامًا أن صديقًا يدق هاتفي فيبلغ قلبي حنجرتي وأشعر بانعدام القدرة على التنفس، بينما هو يريد استعارة نسخة من كتاب.
63 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 5 months
Text
ظاهرة العبور من الباب
في كتابها الجميل الذي أوقن أنه سيصبح من كتبي المفضلة في العالم، تحكي سڤيتلانا أليكسيفتش عن ضابطة المقاومة الروسية التي عملت متخفية كنادلة مطعم يتردد عليه الجنود الألمان في الحرب الثانية. كانت مكلفة بتسميم هؤلاء الجنود، لكنها وجدت هذا عملًا رهيبًا، رغم أن الجنود الألمان أحرقوا القرى وأهلكوا الحرث والنسل، رغم أنهم أبادوا أهلها شخصيًا، ذلك أن الواحد منهم كان يقول لها بعد أن تضع له طبق الحساء: "كم هو لذيذ، شكرًا". والكتاب حافل بقصص تصلح كل واحدة منهن أن تكتسب طابع الأسطورة، غير أن هذه القصة نالت مني منالًا عظيمًا.
في هذه الأيام الجارية، لاحظت ما أسميته "ظاهرة العبور من الباب"، وفيه أشير -في حديثي لنفسي- لذلك التحول الرهيب في نظرتي لمريض/ة في اللحظة التي يعبر فيها باب العيادة ويجلس أمامي ويتكلم. أقضي سحابة نهاراتي كالطبيب البشري الوحيد في عيادة طب الأسرة في وحدة تخدم منطقة مزدحمة، مطلوب مني أن أكشف على عدد مهول من الأشخاص يوميًا وأن لا أفقد عقلي وأحافظ على معتقداتي الطبية. ويتسبب ذلك في مشاحنات يومية، وتذمر لا ينتهي أسمعه من داخل العيادة، وحنق مني على المريض العنيد، ونظرات غاضبة أرمي بها المنتظرين في حلق الباب وأنا أترقب الفرهدة القادمة.
يتغير ذلك الشعور تمامًا -وأدعي أنه يتغير على الجانبين- ما إن أشترك مع واحدهم في حديث واستماع. لا أنس تلك السيدة التي ظلت تقتحم العيادة هي وطفلها مرة بعد مرة وأنا أتشاجر معها وأرى الغضب يتجمع في عينيها من طول الانتظار ومن سوء الأحوال. لما حان دورها شاهدت عينيها تتسعان لما لقيته من اهتمام، تحول غضبي على عدم احترامها للدور إلى تعاطف وشفقة عظيمين نحو هذه الشابة التي تمتلك تاريخًا مرضيًا حافلًا بأشياء أقساها تشخيصها بورم خبيث في سن الثلاثين، عشر دقائق من الاستماع وضعت هذه السيدة أمام ناظري في تقاطعات رهيبة من الظلم الچندري حيث يضربها زوجها، والاقتصادي حيث أنها لم تحظ بتعليم ولا تستطيع إعالة أطفالها، والتفسيري: حيث أنها لا تدرك أن طفلها الصعب الذي لا تستطيع فهمه يعاني من طيف من التوحد. دفعني تقديري لوضعها إلى فهم تصرفاتها السابقة، بل وأني عجبت منها كيف لا تخرج على العالم شاهرةً سيفها.
لا تنفك تلك الظاهرة عن التكرار. في المسافة البسيطة التي يتطلبها عبور الباب، في الدقائق التافهة التي يتطلبها أخذ التاريخ المرضي باهتمام؛ يعاد خلق البشر أمامي، وأومن أن الأمر متبادل، يخرج الواحد/ة منهم مبتسمًا مطلقًا علي النعوت اللطيفة بعد أن دعى علي بأن ينالني من الله ما أستحق من كام ثانية فقط.
أحالني ذلك لتلك اللحظات الصغيرة في كشك الخياطة، تلك اللحظات التي تفصل بين خياطة خمس حالات نزفت بغزارة وأغرقت الأرض دمًا ترك لفترة، وبين دخول عمال التنظيف لمسحه بشكل دوري، لطالما ذهلت من أن رائحة الأجساد البشرية المفتوحة والأنسجة المتهتكة تشبه بالضبط رائحة محلات الجزارة. أمر بديهي ومروع في آن. الإنسان قطعة من اللحم، ما الذي يجعله إنسانًا؟ متي تحول اللحم الحيواني الشائع إلى إنسان حرام، مقدس الوجود؟
لا بد أنها لحظة شبيهة بظاهرة العبور من الباب، وعى الإنسان أنه موجود وأدرك الأشياء والشعور والألم وأدرك وجود الآخر وميز فيه ذات الملكات وأسبغ عليه ذات الصفات التي وجدها في نفسه. هكذا نشأت الأخلاق التي فصلت الإنسان عن المملكة الحيوانية، بداية من التعاطف: من قدرة الواحد/ة على وضع نفسه مكان غيره. ومهما يكن من تفسير علمي لتلك الظاهرة الفاتنة، ومن عزوها لناقلات كيميائية في النواقل العصبية، ومن أعمال فيسلوفة الأعصاب باتريشا تشرشلاند، ومن إيمان المؤمن بأن في الإنسان جوهر إلهي لا يمكن تفسيره بالبيولوچيا، مهما يكن من أمر، فأنا أعتقد أن مراقبتك لأي إنسان بأي طريقة، بالنظر أو الاستماع أو بمعرفة قصته، ستعيد خلق هذا الإنسان أمام عينيك بما يشبه المعجزة.
لا أعرف من أن تأتي تلك الهالة الإنسانية، من البيولوجيا أو من ما وراء العالم، لكن الأكيد أنها تأتي عبر الإنسان نفسه، الصفة الإنسانية عمل جماعي، أنت تميز أني أكثر من قطعة لحم تافهة وأنا أفعل المثل فنتحول لإنسانين، إذا توقف هذا الإجماع تتضح بسهولة مرتبتنا في المملكة الحيوانية.
في كتابها الجميل تحكي أليكسيفيتش عن قناصة روسية في الحرب الثانية، تذكر أيامها الأولى في الجبهة لما ذهبت محملة بغضب ورغبة في الانتقام من الألمان، تطلب عملها مراقبة الجنود عبر عدسة بندقية القنص، ولما حانت ساعة التنفيذ طلبت من صديقتها التنفيذ بدلًا عنها، لأنها لا تقوى على إنهاء حياة إنسان "شاهدته يتحرك ويروح ويجئ" ولو لوهلة بسيطة بل وعبر منظار بندقية قنص. عبر الجندي إليها من حلق الباب. وأنا أنبهر من سهولة أنسنة الواحد لغيره، وبساطة المطلوب لدفعه لذلك، لكن الأكثر رعبًا هو سهولة نزع تلك الهالة عن أحدهم برضه، وذلك الشعور المرعب بأنك تتأرجح بين حالتين من كمال الإنسانية وعدمها بحسب تقلب الحكام وأمزجة البشر وأهواء اللاعبين الإقليميين في المنطقة، عشرات الملايين من العوامل التي بإمكانها أن تخرجك رغمًا عنك من حلق الباب أو تدخلك فيه. شئ عجيب.
65 notes · View notes
Text
في البداية كان تخصص طب الأعصاب هو الهدف الذي لا محيص منه. هذا هو العلم الذي سيؤدي بي لله، أي طريق لله أفضل من العقل البشري الذي يدركه، أي سحر أعظم من حالات مرضية تفكك لك الإنسان لأجزائه الأولى، هذا رجل لا يستطيع تكوين الكلام الذي يعرفه لكنه يفهمك، وهذا آخر يستطيع تكون كلامًا كثيرًا لكنه لا يفهمك ولا حتى يفهم كلامه. ومرد ذلك لجلطات في أماكن معينة مسماة بأسماء آباء الطب. بإمكانك تشخيص مريضك من مشيته، من وقفته، من حركة رأسه المترددة. بإمكانك تشخيص مريضك من تحولات تطرأ على شخصيته. بإمكانك التساؤل عن علاقة البيولوچيا بالأخلاق طالما أن الأولى تخلق الثانية وتعدل فيها. كان حلمي. وكان متسقًا مع رغبتي في السفر للولايات المتحدة، حيث أنه تخصص يقبل الطالب الأجنبي.
في الامتياز أصابني المس. قررت أن الأعصاب طب جميل أدبيًا فقط. كنت أشهق عجبًا أمام الأشعة المقطعية التي تبين جلطات في الفصوص الجبهية، وأنقل بصري بينها وبين ذلك الرجل الذي رده الله رضيعًا يبتسم بعشوائية، ويحكم قبضته على إصبعك كأي طفل. لكن ماذا بعد؟ أبدية الإصابة واستحالة التحسن. الأعصاب تخصص محبط. هذا ليس طريقي لله.
منكبة على جرح الفتق الإربي، وعلى جرح الاستكشاف الطولي؛ رأيت الله مرةً ثانية. كأني أطالع في تلسكوب يرى النجوم، هكذا كانت الأنسجة المفتوحة على دواخل الجسد البشري. الدهن والعضلة والوتر. هنا أرى الله. يخفق قلبي مع انقباضة العضلة تحت الدياثرمي. مع النبض الدقيق في الأوردة الحية، عند إدراك شرف أنك تحظى بمشاهدة الجسد وهو يعمل.
هكذا تشوشت الخطة. الجراحة صعبة في السفر. الجراحة تلفظ البنات. انكببت على امتحانات المعادلة الأمريكية حتى حظيت بسكور مناسب للجراحة، تقبلت كل خسارة في سبيلها، لكن الحياة تمضغك وتلفظك إذا بالغت في عنادها.
أجدني الآن أمام فرصة في تخصص النساء في مستشفى تعليمي. لي معها تجارب حلوة. إحساس الرحم بعد الولادة وهو ينقبض تحت يدي، وضوح العلامات أو الsigns في النسا بشكل ملحوظ يناقض مراوغة العلامات في الباطنة. الرحم بعد الولادة قاس كالحجر، وسقوط المثانة في المهبل يمكن رؤيته كبالون حقيقي، والهرمونات لعبة شطرنج منطقية وجميلة. لكن النسا في مصر؟ ذلك الكابوس؟ هل سأرى الله؟ هل سأحقق التزامي الشخصي في خدمة النساء بخاصة، أم سأتحول لوحش؟ هل سأخسر؟ هل سأحرز؟ هل سأتعلم؟ هل سأتميز؟
تخطفتني الحياة من كل جانب، وأنا بلا دليل أو مرشد أو رفقة. وأريد أن أتحدث ومفيش مكان مناسب غير هنا. اللهم فهمني المطلوب مني بالراحة.
33 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 5 months
Text
رسالة لشجرة الجولدن شاور من معجبة مخلصة
في طريق العودة للمنزل، هناك مسافة أقطعها مشيًا، في الثلث الأول من هذا المسافة أمر بشجرة ياسمين عربي -أو فل كما يطلق عليها الفلاحون- مذهلة. كل يوم أمر بجانبها ولحوالي دقيقتين، تفغمني رائحة الجنة وتتساقط البتلات الجميلة على رأسي كأني في حلم، وأقول أني محظوظة لأني طريقي تقاطع مع هذا الكائن الجميل، ثم ينتابني شعور بالأسى؛ ذلك أنني أتذكر وأفتقد شجرة أخرى: شجرة المطر الذهبي.
في طريق الذهاب لمكان تكليفي يتحتم علي المرور من شارع أرستقراطي رائع ملئ بالقصور والڤلل والحدائق، كلما قطعته راكبة أو راجلة أتوقف عند شجرة جميلة أو زهرة عجيبة وأتتبعها عبر محرك البحث جوجل، وعليه تعرفت على أنواع كثيرة أدركت أن جلها مستورد، لكن أجملها كانت شجرة المطر الذهبي، وهي شجرة آسيوية زهورها مقلوبة الكئوس كأنها تمطر عليك، وبتلاتها بلون أصفر جميل. أغرمت بها وشغفني حبها. لكن في الفترة الأخيرة صار ذلك الشارع مقرًا لكمائن المرور والأمن، وتجنبه السائقون بكل حيلة في مقدورهم تجنبًا للاحتكاك بأمناء الشرطة، صار شارعًا رهيبًا لا أستطيع حتى المشي فيه، وتقطعت بنا -أنا والمطر الذهبي- كافة السبل.
ومنذ فترة كدة حوالي تلات شهور يعني وقعت على عنوان كتاب جميل -العنوان هو اللي جميل- لم أقرأه بصراحة لكن فكرته كالتالي: أن هناك قيمة لا يمكن تعويضها لأن يكون المرء حاضرًا بشخصه، لأن ذلك لا يمكنه فقط من اختبار الأشياء بنفسه، ولكن يضعه في بيئة من احتمالات متضاعفة وخيارات لا نهائية تعمق من تجربته الإنسانية؛ أو تصنع تجربته الإنسانية بالكلية. وجود الواحد/ة في المجال العام يمكنه من الوقوع في الحب وتكوين الصداقة الجميلة وتبني القطة وتأمل السماء والعثور على فرصة العمل والتقدم المهني. كذلك فالحرمان من المجال العام بالسَجن أو النبذ المجتمعي هو أقصى عقاب في القانون البشري، بخلاف الإعدام يعني، لأنه بشكل حرفي يحرم المعاقب من أن يصبح إنسانًا، ولذلك تأثرت بقصة معتقل في جوانتانامو اعتقل وهو مراهق، وألحقه السجناء بمدرسة تعلم فيها جمهرة من مواد: القراءة والحساب وحتى الطبخ حيث كانوا يتخيلون الأطباق والبطاطس والجزر والتقلية، وأخيرًا الحب: كيف تتغزل بفتاة جميلة أعجبتك وكيف تعامل زوجتك بحنان واحترام. ففي هذا فعل لمقاومة ضمور الشخصية الذي يسببه الحرمان من المجال العام. من الشارع.
وعليه فملكية الشارع هي غاية الأشياء. من يمتلكه يمشي ويسعى ويكتمل تكوينه ويسير في الأرض فينظر كيف كان عاقبة الذين من قبله، ويكتمل تعليمه الدنيوي. تثبت الدولة سلطتها بامتلاك الشارع، تثبت الدولة درجات تسلطها بأي مدى تحرم أو تحل الشارع لمواطنيها. فيما قبل تلك الحرب، كانت ��لثيمة المتكررة في أدبيات الشعب المحتل هو سخطه على الحرمان من المكان الذي يتواجد فيه بشخصه، هناك مدن لا يقربها، بحار لا يملأ عينيه منها، شوارع لا يستطيع المرور عبر كمائنها، مئات الاعتداءات الصغيرة على الحق في المكان، الحق في الشارع، الحق في الصدف ومقابلة الأشخاص والحياة النباتية والبرية التي تصنع من الواحد/ة ما هو عليه.
لذلك فإني مصابة لحد الهوس بفلسفة العمران، كيف يؤثر البنيان والطرق والكباري والحدائق والمتنزهات العامة على الإنسان، بل وأسرف في الانتباه لوصف المدن الغابرة وطرقها وقصورها وعدد مساجدها وأسبلتها وحماماتها وأوقافها ومدابغها ومكتباتها. يُستدل على الواحد/ة من مدينته التي مشاها وأذابت أحذيته وملأت بطنه من مطاعمها وألهمت قريحته وأشبعت حواسه وأهدته الصدف.
وكذلك فإن "الحق في الشارع" مفهوم سياسي محوري، من له الحق في الشارع يقرر، في الحالة العادية اليومية فالحق للدولة، وفي حالة رغب الأفراد تعديل قرار الدولة فعليهم بالشارع. وهو مؤشر للرفاه الاجتماعي: كم عدد الشوارع المتاحة للجميع؟ المدن المتاحة للجميع؟ الشواطئ المجانية غير المحاطة بالحواجز الأسمنتية؟ هل يمكنك مشاهدة البحر كحق أصيل؟ المشي في شارع تظلله الأشجار متأملًا دنيا الله؟ تأمل مدى وسماء لا يقطعها مكعب أسمنتي؟ هل لك حصة في الشارع؟
أنا لم تعد لي حصة في شارع شجرة المطر الذهبي. ولا يدرك الأصدقاء الذين أحكي لهم عن مفهوم المدينة القابلة للمشي / walkable city أني قد أضحي بطفلي الأول علشان أعيش في هكذا مدينة. تمشي فيها دون أن يضايقك رجل، أو يوقفك كمين متعسف، أو تحرق رأسك شمس لأن الأشجار قطعت، أو تندم فيها على أطلال أثرية هدمت، أو تأسى فيها على طرق أهملت. لكن المسألة أن حتى لو عشت في هكذا مدينة ولم تكن مدينتك التي تحمل ذكرياتك فسيكون الأمر منقوصًا برضه، أو بتعبير فرج سليمان في أغنيته التي يتذكر فيها رام الله وهو في برلين، يقول أن برلين "حلوة وملانة ناس" لكنها "بتوچّع" لأنها ليست مدينته.
وأنا حلمي أن يكون لي الحق في تأمل المطر الذهبي، في مدينتي، في شارعي المفضل، مع الأصدقاء ومع من أحب، دون الاضطرار للمغادرة لأماكن بتوچع. وأتمنى أن يصل سلامي للشجرة الجميلة التي افتقدتها كثيرًا وإلى لقاء قريب يا حبيبتي الحلوة.
42 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 3 months
Text
أمل تمنحه عربة بليلة ومستعمرة نمل
أخترق شارعًا جانبيًا مريبًا في طريق العودة من الوحدة الصحية. لا توجد به إلا لمبة واحدة للإضاءة، وأتلمس فيه مسيري تحت ضوء واجهات البقالات المتجاورة، والبيوت المفتوحة أبوابها، والمصابيح الأمامية للتوكتوك المتأرجح رائحًا وغاديًا، وحتى شرارات مسدس اللحام في ورشة السيارات على أول الشارع. يخلق فيّ عبور ذلك الشارع إحساسًا بخوف شفيف. لكن في أحد الأيام الماضية، شعرت في ذات الرحلة عبر الشارع النحيل المظلم بسعادة مفاجئة.
دهمتني رائحة حلوة ودفء، شرعت أتبين أنها مكونة من حليب وسكر وفانيليا وقرفة، وهي ساخنة تمامًا. الشارع كله له تلك الرائحة غير المتوقعة. عشر دقائق أمشيها مغمورة بها وبمشهدية الإضاءة الصفراء الشحيحة أشعرتني بأني بطلة على شاشة سينما. لما وصلت لرأس الشارع تبينت أن مصدر الرائحة عربة بليلة اختارت تلك النقطة مقرًا جديدًا لها. عربة بليلة شقلبت إدراكي لهذا الشارع النكد؛ وهو أمر فجر عقلي بعنف.
ربما دفعني بطء هذه الأيام الكئيبة للهوس بنشوء ذلك الشعور الجميل من أصل بسيط، هل هذه تجربة يمكن تكرارها إذا توافرت الظروف المواتية؟ هل هي ظاهرة فريدة ونادرة؟ وأيًا ما يكون من أمر، فأنا أسعى لمعرفة سرها؛ كيف تحدث الأشياء المعقدة الجميلة من مصادفات بسيطة؟
في مصادفة أخرى، وفي أحد النوبتجيات المثلجة القذرة شرعت في قراءة كتاب يتأمل في "نظرية التعقيد"، وفي روعة الأنظمة المعقدة، وهي الأنظمة التي تكون محصلتها أعظم من محصلة مجموع الوحدات المكونة لها. مثل الجسد البشري، ومستعمرات النمل، والنظام الطبيعي في الأرض، وحتى مادة الكون. مؤلف الكتاب طبيب متخصص في الباثولوچيا الإكلينيكة، منكب على المجهر يتأمل خلايا متراصة في أنسجة صغيرة، يعترف أنه من السهل نسيان أن تلك الأنسجة مأخوذة من كيان قاهر هو الجسد البشري. في المسافة من عدسة مجهره التي لا تظهر إلا خلايا هادئة ورصينة لحقيقة أنها الوحدات المؤلفة لكائن يأكل الطعام ويكتب الشعر ويحب أبناءه، في هذه المسافة تفسر نظرية التعقيد كيف تنشأ الأشياء المعقدة الباهرة من الأشياء البسيطة حسنة النية.
دفعني وصفه لمستعمرة النمل للبكاء قليلًا. ينبهك لتأمل النملة المنزلية المتعجلة دائمًا، تقطع المسافات بعشواقية وبلا هدف، إلى أن تصادف قطعة سكر أو جثة صرصور، تترك أثرًا كيميائيًا بينما تعود بالطعام للمستعمرة، تقع عليه نملة أخرى في مسارها العشواقي الموازي، تتبعه لتجد نفس الكومة من الطعام، وتترك أثرًا كيميائيًا بدورها، وهكذا. يتجمع النمل الهائم على الطعام حتى ينتهون من نقله تمامًا ويخفت الأثر الكيميائي. من العشوائية ينشأ التعقيد. من الأشياء التائهة البسيطة ينشأ النظام والجمال.
والكلمات المستخدمة في تلك النظرية بالغة الشاعرية. النظام المعقد هو الذي "تكون محصلة كله أعظم من أجزائه"، يتميز ب"الخواص الناشئة"/ emergents properties، وتتوسع تخومه لتخلق ال"الممكنات التالية مباشرةً"/ adjacent possible. في هذه الأيام القلقة والمرة في حلوق الجميع، أقع على فقرة في هذا الكتاب تصف حاكمًا متخيلًا توهم السيطرة المطلقة على مجموعة بشرية، متجاهلًا حقيقة أن الجماعات البشرية، مثل واحدها من البشر: نظام معقد. لا يمكن إحكام حدوده النشطة، لا يمكن التنبؤ بخواصه الناشئة، لا يمكن إتمام مراقبته بأي قدر من العيون المنتبهة.
أقضي سحابات أيامي الماضية في حزن على الأحلام التي تسفك على مدار الساعة، في استيعاب الانهيار التام للأشياء، في الشعور بأنها نهاية العالم كما نعرفه. نهاية المستقبل كذلك. لا يوجد موضع لنسمة من هواء نظيف. وأجدني فجأة أتشبث بفكرة فائقة التجريد من مثل: "لكننا في نظام معقد لا يمكن التنبؤ بخواصه الناشئة".
أتلمس الأمل لدى الأصدقاء، ولدى الأكثر خبرة وحنكة، فلا أجد أي شئ لعين ذي قيمة. الجميع خائرو القوى مفرغون من المعنى مثل خرق بالية. أنتهي إلى ما انتهوا إليه، ثم أجد العزاء في هذه الفكرة إلى حد أني أطمأن لأول مرة من فترة طويلة. أي شئ ممكن يحصل، كل شئ ممكن، أتفه الأشياء يفرز أعظم الأشياء، مهما بلغ الإمعان في الحصار، وفي الخراب، وفي الرداءة، لا يثلم ذلك من حدة تعقيد العالم والنفس الإنسانية، ستنشأ المفاجآت المذهلة: أليست المقاومة خاصية ناشئة من أصل حزين وخرب؟ والثورة؟ والأغنية؟ وتخليق النيتروجين كيميائيًا لأغراض التسليح في الحرب العالمية الثانية ليستخدم بدلًا من ذلك في التسميد الزراعي وينقذ الملايين من الجوع؟ ومسيرة الطب من تجريب وملاحظة ومصادفة؟ وحتى الحب الذي يسفر عن أسرة صغيرة؟
إذا كانت شيف البليلة قد سلك مسارًا أدي به للحلول على ناصية الشارع المؤدي الوحدة الصحية مغيرًا بذلك حالتي النفسية دون قصد من أي منا، إذا كانت هذه الصدفة الصغيرة القوية ممكنة لأن العالم نظام معقد دائم الحركة ونشط الحدود، ومن هذا العدد المهول من الأشخاص والطرق والتفاعلات الإنسانية والحيوانية؛ تخيل/ي كم مصادفة تحدث في ساعة واحدة؟ ألا يمكننا الأمل قليلًا في أن بعض الجمال والسكينة قد ينشآ في وضع منذر بحتمية الخراب، وفي أن من يتوهم السيطرة الكاملة على نظام معقد مثل جماعة بشرية -أو مستعمرة للنمل- سيحبط مسعاه حتمًا؟
34 notes · View notes
Text
في البدء كانت الكلمة
أقدم افتتان أصابني هو افتتاني بقوله: "إن هي إلا أسماءً سميتموها". منذ وقعت على تلك الآية في عهد الطفولة وحفظ الألواح المقررة وأنا أسيرة ذلك الكشف الباهر: إن هي إلا أسماء. وقد ذهب بي ذلك الاهتمام مذاهب شتى، فأحالني لفلاسفة اللغة، وفلاسفة ألعاب اللغة، وعلماء الأعصاب، ومكتشفي العصبونات، بل وحتى المشتغلين بالعلم الجديد المسمى بفلسفة الأعصاب.
في العهد الذي شغلت فيه بالحفظ والتدارس، كنت أرى أن تلك الحجة هي الأوقع في طعن الوثنية. يخبرهم أن الأوثان لا تملك لهم -ولا لأنفسها- نفعًا ولا ضرًا ولا تملك حتى الشفاعة عند الإله الحق. وأتأمل في كون الوثن هو أيقونة ممثلة لمعنى، ولكيان هائل يحاول الإنسان حفظ بعض معناه في الحجر كي يشبع رغبته في أن يملأ بصره بما يحب. وعليه فقد يتقبل الوثني كون تلك الصورة للإله لا تنفع ولا تضر؛ ويعرض لها ما يعرض للأشياء المتعينة من فساد وتعرية. لأنها في النهاية جمادات صنعها بنفسه، أما موضع عبادته فهو الإله المحتجب خلف الأيقونة المادية.
لكنني أظن أن الحجة ستقام عليه فورًا ما إن يتذكر البداية. لحظة إطلاق الأسماء، يوم أن كان المعنى طريًا لأنه خلق توًا، قبل أن يتصلب ويكتسب شكله المهيب. يوم أن كان الإله اسمًا أطلق على وثن ليشير لمعنىً. ستقام الحجة لحظة أن يتذكر الإنسان أنه من أطلق الأسماء على الأفكار فأحياها وجعل لها سلطانًا عليه، حتى تحول بعضها لآلهة تقدم لها القرابين والصلوات.
لدي ولع مريب بالإبادة العرقية في رواندا عام ٩٤. وفيها قضت عرقية الهوتو بشكل يكاد يكون تامًا على عرقية التوتسي لأسباب سياسية. ومؤخرًا كنت أقرأ ثانيةً في الأمر، وتفجر عقلي لما أدرك أن التقسيم بين توتسي وهوتو ليس تقسيمًا عرقيًا بالأساس؛ لكنه تقسيم طبقي عتيق. فيما مضى اشتغل أغلبية السكان بالفلاحة التي تدر دخلًا زهيدًا، وأصبحوا "جماعة" الهوتو. أما الصفوة الذين اشتغلوا بالرعي وتجارة المواشي فكانوا "التوتسي". المذهل أن الواحد كان بإمكانه الترقي من هوتو لتوتسي ما إن يجتمع لديه قدر حرج من المواشي.
لكن في لحظة التسمية التي تبدو مختلقة تمامًا، بدأ كل فريق يلتزم بما يمليه عليه الاسم، وتبلور التقسيم الطبقي التافه إلى عرقية مفتعلة. بشر يشبهون بعضهم بالضبط، اقتنعوا أنهم مختلفون بناءً على أسماء قديمة منحت لهم، فظن التوتسي أن أنوفهم "أنعم"، وبشراتهم أفتح، وأخلاقهم أرقى. عزز ذلك اصطفاء الاستعمار البريطاني لهم، وتعميقه للفجوة العبيطة بين الجماعتين، ودسه للعلوم الزائفة التي تصنف كل منهما بوصفه عرقًا متمايزًا، وهو ليس كذلك. أسفرت الأسماء البريئة عن تاريخ حافل، انتهى بشكل مفزع.
اشترك معظم الهوتو في الإبادة، حتى المواطنون العاديون الذين لم يحملوا سلاحًا قط حتى لحظة الحرب الأهلية. أفكر في واحدهم وهو مقبل بفورة هيستريا على جزر جاره التوتسي لأنه رجل مختلف تمامًا، ما الذي سيدور في خاطره لو ذُكر بحقيقة أن اختلاف القتيل عنه مرده لأن جدًا له كان تاجر مواشي غني. هل سينتبه لتفاهة فعله؟ لغبائه؟ لعبث العالم بأكمله؟
أليس العالم محكومًا بالأساس بمجموعة من التسميات التي اصطلح البشر على منحها السلطة الغاشمة؟ كذلك القانون، هو بالأساس "كلمة" لها قوة نافذة كما يقول فقهاؤه. لا أزعم أن التسميات تنشأ بطريقة عشوائية، وبلا ضرورة، كي تحتل الدنيا. وراء كل اسم حاجة إنسانية ملحة دعت لاجتراح الاسم، بل وربما اجتراح المسمى كذلك. لكن المذهل هو أن الإنسان هو الذي ينشئها بنفسه، وبمجرد إطلاقها للعالم تتكلس وتكتسب هيكلًا قويًا وتصبح آلهة متعددة في الأرض. ماذا لو تذكر الواحد/ة سلطته على الأسماء؟
أتشبث بهذه الفكرة العالمية والأكاديمية المجردة على المستوى الشخصي. أحاول التخلص من الأوثان الشخصية الصغيرة بتتبع رحلتها التي كانت بدايتها مجرد كلام. إما كلام أقوله لنفسي، أو أسمعه من الآخرين، لكن الفرصة تركت له فسلك مسلكًا قاهرًا. لا يمكن تفكيك العالم إلى وحداته الأولى وحل خيوط اللغة التي تبقيه قائمًا، أومن بذلك تمامًا. لكن يمكن بقدر من الانتباه والبصيرة والكدح اليومي تفكيك بعض منه، على الأقل الأجزاء التي ضروريٌ نسفها من أجل المزيد من الهواء اللازم للعيش.
لأن التاريخ عملية دائبة من خلق الأسماء وطرحها. ومن تغير المسمى الذي تشير إليه تلك الأسماء، وخروجه عن طبيعته الأولى. وتنفضح هشاشة الكيانات الكبرى بوصفها مجرد فكرة اختار البشر الإجماع عليها. كذلك في التاريخ الشخصي هناك سحر مماثل في إدراك أن أسيافًا مسلطة على أعناق الواحد/ة من مثل: المخاوف الكبرى والصغرى، والرغبات المقلقة، والطموح المفروض فرضًا، وحتى الحكومات التي تحكم على النفوس، ما هي إلا أسماء، نخلقها فرادى أو بمعية الآخرين، ويمكن ببعض المشقة إعادة بنائها، أو حذفها للأبد. وحتى لو لم ينهار الاسم دفعةً واحدة، فإن إدراك ماهيته يضرب معولًا فيه، وهذا يجعل الأشياء سهلة، أو على الأقل، محتملة.
24 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 3 months
Text
الواحد-ربما-لم يهزم بعد
في أكتوبر الماضي أخبرتني مريضة أنها تثق في كثيرًا لأني عالجتها من عدوى ما وتحسنت على الفور، شكرتني بحرارة وبينما تهم بالمغادرة بدت وكأنها تتذكر شيئًا تافهًا. "لدي كتلة غير مؤلمة في الثدي الأيمن"، طلبت أن أفحصها، وشعرت بنذر الخطر من ملمس الكتلة الجامد والثابت تحت يدي. أحلتها لمستشفى وألححت عليها أن تذهب في اليوم التالي مباشرةً رغم أنها كانت مكتفية بالخلاص من العدوى المزعجة على الأقل اليومين دول؛ لكنها وعدتني أن تذهب "علشاني"، ورغم أني سقت لها طائفة من المبررات المبنية على دليل علمي.
كانت تلك الأيام التالية مباشرةً لإجرائي امتحان مهم في مسيرتي الطبية الضبابية، يفعمني الأمل والحذر وتتملكني أحلام بغرفة عمليات في مكان أفضل من مكاني الحالي، أقف فيها برأس منكب على جسد بشري مفتوح، وأتعلم كل شئ عن العالم.
منذ تلك النقطة تغيرت كثرة من الأمور وتحطمت طائفة من الأحلام، أصبح مستقبلي الطبي أكثر ضبابية ورعبًا إلى حد يدفعني أحيانًا لتمني زوال الدنيا. أفتقد الطب الحقيقي وأشعر بتفاهة المسعى في مكاني الحالي، أقول حتى لو كنت في أسوأ مكان؛ لن أركن للرداءة، في كل مكان هناك فعل واحد بإمكانك فعله ويحدث فرقًا، ويرضيك عن نفسك، ويراه الرب فعلًا حسن. أقول ذلك ثم أغرق في دوامات قاهرة من الشعور بانعدام الجدوى وفشل المسعى وانتهاء الطموح.
في مطلع الأسبوع الماضي فوجئت بتلك السيدة أمامي في العيادة ترافق طفلتها، لما سألتها عن الأحوال قاطعتني قائلة: بتسألي عن الكانسر؟ أخبرتني أنها تم تشخيصها بسرطان الثدي المستجيب هرمونيًا في المرحلة الثانية، وأنها أجرت عملية جراحية وتخضع الآن للعلاج الكيميائي. شكرتني بحرارة وهو ما أذهلني، أتصور أني سأكره أي طبيب/ة ارتبط في ذهني بتشخيص كهذا. بينما أتناقش معها في تفاصيل الحالة، شعرت بحنين غامر. أفتقد هذا الشعور بالتعقيد، وشرعت أشرح لها الحالة بإحساس العائد إلى وطنه، التفاصيل الجراحية وال staging والبروتوكول، بشعور المتيم بتاريخ استئصال الثدي الجذري لهالستد وتطور تلك الجراحة على يد الفرنسيين لجراحة "محافظة" وغير جذرية. لما غادرت السيدة انتابتني فكرة أنانية بأني أتمنى لو كنت الطبيب المعالج وليس الطبيبة التي أجرت screening واقتصر دورها على مجرد الإحالة. ألم الأحلام التي لم تكتمل بعد.
صباح اليوم زارتني مرة ثانية. كانت تبحث عني لتستفسر عن أثر جانبي للعلاج الكيميائي. أخبرتني أني أفضل طبيبة تعاملت معها. هذا أمر عجيب. أنا أفضل طبيبة؟ في عقلي هيراركية تضع مستأصل الورم على قمة هرم الأطباء الذين تعاملوا معها. ذلك أني أحلم بأن أكون مكانه. لا أستطيع قبول مدح لا أفهمه وأشعر أنه في غير موضعه. أخبرتني أنه منذ بدء رحلتها وهي تختبر آلامًا جديدة وغريبة، ومذاقات مرة في حلقها، وتتغير في المرآة، ولا أحد يشرح لها أي شئ مما تمر به. قالت: "أنا بكون مش فاهمة وأنت بتخليني فاهمة". هذه هي قمة هرمها.
أمطرتني بدعوات ومحبة وعشق. شعرت بذنب لأني أتفه ما أفعله لأسباب أنانية، لا أشعر بالتحقق الآن لكن هذه السيدة "فاهمة". فعلي لا يرفع ألمًا ولا يمسك مشرطًا في أثر مشرط هالستد العمدة ولا حتى يطبق برتوكول ال adjuvant therapy. لكن واضح أنه فعل مهم، لأنها تتيه بي. أقول أن شرحي وتقديسي لحق المريض/ة في سماعه ليس سوى أثر جانبي لقواعد مؤسسة أنطلق منها في أسلوبي كممارسة طبية، ومن ولع خاص بما أطمح لأن أفعله. أليس هذا مؤشرًا جيدًا؟ ألا يحدوني ذلك للأمل في النفس؟
وإن كانت المرارة تلازمني هذه الأيام لأني لم أبدأ بعد، لم أصل بعد، ولا أفهم حتى هذه اللحظة كيف تحول الأيام القادمة مساري، ألا يدفعني ذلك لتقدير هبة الفهم؟ تحول الأفكار المظلمة بيني وبين تذوق أي شئ سوى طعم اليأس والرغبة في الهرب وترك الطب تمامًا، وأفكر اليوم في احتمالية أن ينقذني ذلك التقدير الناشئ لما أفعله في هذه الأيام الضبابية، أتذكر أن من يقدرون خطواتهم المحرجة الأولى هم الذين ينتهون إلى خطوات مهيبة حقيقية لأن هناك قدرًا حرجًا من الثقة لازم لكي لا ينهار الواحد/ة وهو يسعى، ولكي يفضي سعيه إلى نتيجة. وبينما تمطرني السيدة بعبارات شكر ودعوات بالحج "كل سنة" أرغب في أن أشكرها بدوري لأنها أثارت انتباهي لأن الواحد -ربما- لم يهزم بعد.
40 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 2 months
Text
في الاحتياج للمتنبي وهو يمدح سيف الدولة ويستعطف لبني كلاب
أذكر أني في سن السابعة ضربني شيخ القرآن بإجحاف. لم أكن أعرف ساعتها أن كل ضرب مجحف، لكني ميزت أنماطًا منه يفرط فيها الشيخ في وحشيته ويتفنن في طرائقه. أحسست بظلم عظيم وترسب طعم مر في حلقي، منذئذٍ أشعر بذات الطعم كلما نالني ظلم. اشتكيت للأهل الذين اشتكوا لمديرة المعهد بدورهم، وواضح أن المديرة أشبعته لومًا أو هددته بفسخ تعاقده. في اليوم التالي فوجئت بالشيخ يقترب مني في الفسحة ويحني رأسه ويعتذر مني اعتذارًا أظنه صادقًا. كان رجلاً فارع الطول، له لكنه ريفية ثقيلة. أخبرني أنه يفعل ذلك لك كي يساعدني على أن أحفظ القرآن جيدًا، وأنه هكذا تعلم. لا أعلم كيف توصلت للإدراك التالي في هذا العمر التافه، لكني رأيت الشيخ -فجأة- شابًا ريفيًا لا يحسن من الدنيا إلا تلقين القرآن كما تلقنه في صباه، وأن ذلك أفضى به لأن يضطر للاعتذار لطفلة في السابعة طولها أقل من ربع طوله؛ ربما لكي لا يفقد وظيفته. رأيت الشيخ إنسانًا غلبانًا. شعرت شعورًا قاهرًا بأن النظرة المنكسرة في رأسه المحني شيئًا خاطئًا، أعرف أن إيذاءه لي أمر بشع، لكن بطريقةٍ ما شعرت بأن اعتذاره المهين شئ أبشع.
ووالله منذ هذه اللحظة المؤسسة وأنا في اختبار لا ينتهي؛ اختبار لحكمة أن تختار القوة ولين الجانب في مواضعهما. أشمئز من اضطرار الواحد/ة لأن يتسلط على غيره تفاديًا لأن يتسلط غيره عليه وحفظًا لحقه البديهي في الكرامة. جملة النصائح التي أتلقاها بأن علي -من آن لآخر- التظاهر بالقوة والبطش انعدام الشفقة؛ لمجرد أن لا أتعرض لغبن أو مظلمة.
لا أستطيع تحمل مرارة أي ظلم، لكن إظهار الشراسة يورثني ذات المرارة، أدفع الخراء بالخراء. وحتى إذا تقبلت وجود ديناميكية الغابة في نسيج العالم؛ وأن الحذر واليقظة أمران ضروريان لمجرد صيانة النفس، فماذا عن ضرورة اللين والرحمة؟
صرت أوقن أن ميزاني الحساس الذي أقدر به مواضع الأفعال فسد تمامًا. كم مرة أظهرت قسوة بدون حاجة لمجرد أن الأمر اختلط علي وأني رغبت في أن أوخذ بجدية؟ كم مرة تباهيت بقوة وسلطة أمتلكها أمام محروم منها بل وربما تحت سلطتي في سعيي لأن أضع الحدود وأحذر من التجاوز؟ كم مرة كان علي التخلي عن كل ذلك الحذر والخوف من أن أذوق المرارة، كي أكون مجرد إنسانة تريد الإحسان لمخلوقات الله؟
في مديح الشعراء للخلفاء والملوك هناك التأكيد المتكرر على أن هذا الملك بالذات يمتلك يدًا معطاءة ويدًا مخضبة بالدماء. في القصيدة التي لا مزيد على حبي لها: "في مديح سيف الدولة والاستعطاف لبني كلاب" يخبر المتنبي سيفَ الدولة بما يعرفه سيفُ الدولة أصلًا: لقد نلت منهم أيها الملك، طاردتهم وروعتهم وساويت في الرعب بين الرجل منهم والمرأة بل وحتى النوق التي أجهضت من هول ما رماهم به من حديد. يقر الشاعر بجرمهم الرهيب في عصيان الملك، لكنه يؤكد أنهم بالفعل نالوا من العقاب ما يماثل الجرم أو يربو عليه. كلما أمعنت في تلك القصيدة أتصور أنها محاولة حذرة من المتنبي أن يري سيف الدولة الحكمة. حكمة أن ترى الشعرة الدقيقة بين أن تتجنب مرارة، وأن تتسبب في مرارة. أتصور أنه أنشأ يمدح شجاعة سيف الدولة وبطشه ودولته كي يطمئنه أن إظهار العطف لبني كلاب ليس طعنًا في كل ذلك، وإلى أن يقتنع سيف الدولة فسيستمر في إراقة الدم الكلابي. أمر يوميًا بلحظات سيف دولية أحتاج فيها لمن يطمئنني أن هذا التنازل وذلك العطف ليس تجاوزًا في حق نفسي سأندم عليه، وأن علي المضي فيه بقلب مطمئن. أحتاج للحكمة، لكن حتى أنالها، كم قسوة سأرتكب؟
28 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 6 months
Text
لا يختص الطب أبدًا بمجرد الأجساد البشرية. أو أن الجسد البشري مساحة تتقاطع فيها الكثير من قوي هذا العالم، وعليه فمحتم للطبيب/ة أن يعرف عن العالم بقدر ما يعرف عن الجسد البشري. لا يوجد الجسد في فراغ محكم كما في كتب التشريح، بل يتحرك في الطبيعة وفي مجتمع يترك عليه أثرًا وينفعل به الجسد كما هو فاعل فيه. وهذا أيضًا من اختصاصك.
لا يمكن فحص جسد مريض/ة بصورة كافية إلا بفحص حالة البلد الاقتصادية، وعدد الخرافات المنتشر في محيطه، والهندسة والعمران في فضاء تواجده. لكن ما يثير اهتمامي هذه الأيام هو اللغة. أقابل في أيامي المعدودات في الرعاية الأساسية لحظات من العجز الطبي سببها سوء استخدام وأبيزة للغة. إيهام يوقع فيه المريض/ة نفسه بسبب اللغة، أو عراقيل تتولى كعبلتي فأقع مكفية على وشي أثناء محاولاتي في تقديم رعاية صحية محترمة في ظروف سافلة.
أقول أن الأدوية التي درسناها في علم الأدوية، وعرفنا ما لها وما عليها، وسميناها بألسنة علمية وتجارية حداد لا تتيح اللبس أو توهم خواص خارقة لهذا الدواء؛ نقرأ اسمه فنتذكر أنه مختص بقتل البكتريا المكورة فقط، بينما هو ذليل أمام العصوية أو أي حاجة تانية. هذا الدواء الذي نراه بعين العالِم الكاشفة، يكتسب في لغة غير المختص اسمًا مهيبًا، وهالة لا ��كاك من أسرها.
الفلاچيل، وهو نوع من المضادات الحيوية يقتل الأميبا وبعض البكتريا، اسمه في لسان المريض المصري: مطهر معوي. وعليه فأي مصيبة تحدث في أي معي لعين، فالفلاچيل كفيل بها، لأنه مطهر، وصف توراتي رهيب. يطلب المرضى المطهر المعوي لجمهرة من المشاكل اللي مالهاش علاقة ببعض: حالات الإسهال الڤيروسي البسيطة، حالات المغص مجهولة السبب، في أعقاب أي وجبة ثقيلة، حالات الإسهال الدموي المريبة التي يجب التيقن من سببها. لأنه مطهر معوي. اختراع شيطاني وساحر.
وتبعًا لهذا النسق، يتحول شريط الكالسيوم الذي يعطى للحوامل إلى شريط "التقوية"، ومن الذي لا يريد شريط التقوية؟ أنا نفسي رغبت فيه بعد هذا التحول المذهل في اسمه من شريط كالسيوم حقير يوصف طبقًا لقواعد، إلى شريط يمنحك القوة، والجميع مرهقون وسينزلهم السائق لأنهم تعبوا من السفر.
في لغة المريض أشعر بأني دخلت لعالم عجيب من الخيمياء. لا أحد يفهم لغتي التي تحاول شرح حقيقة الأجسام المتطفلة على الجسد البشري والفرق بينها. المرض في أذهانهم ما زال مجموعة غير متصلة من الأعراض لها علاج واحد فقط كما في أيام الطب المبني على النظريات غير المجربة. المضاد الحيوي. هو بالنسبة لمريض الرعاية الأساسية ودون ذلك كما الفصد بالنسبة لأطباء القرن السابع عشر. كيف ستنخفض الحرارة بدون مضاد حيوي؟ كيف ستتوقف الكحة؟ كيف ستتوقف الحكة في قدمي؟ كيف سيتوقف الواد عن الترجيع؟ ما تراه أنت مجرد كيمياء معروفة، هو مضاد: درع صليبي، وحيوي: يمنح الحياة أو يحافظ عليها أو حاجة أكبر من كدة.
لا تتوقف لغة المريض عن تفسير مهام الأدوية بصورة عجيبة لا تفلح معها محاولاتي المثيرة للشفقة في التفنيد، بل تتجاوز ذلك لمنح صورة سحرية لبعض صور الدواء، تحيلك لأيام الشامان ومعالجي القبائل الأوائل. في الرعاية الأساسية اكتشفت أن كلمة "دواء" لا تطلق إلا على الدواء المشروب. ولطالما حيرني سؤال: يعني مش هتكتبي لي دوا؟ أمال أنا منيلة إيه في الروشتة. لكن ما كتبته كان مجرد "برشام"، أما الدواء الحقيقي فهو المشروب الذي يوضع في زجاجة وله هالة سحرية، الدواء المشروب هو وريث الإكسير. ومعه المرهم، واحد من أول صور العلاج الذي اخترعه الإنسان، منزلته تجب الأقراص اللعينة. كفيل بالقضاء على أي ما يعرض في الجلد: حساسية، صدفية، خراج، جرع قطعي، غنغرينا ميئوس منها، وهكذا.
أكتشف أن كل مجهودي هناك هو مهمة لغوية. أحاول بضراوة انتزاع السحر عن الكلمة وتدنيسها. أصر على شرح كيف تعمل العلب المرصوصة في الصيدلية. كيف يستحيل الطب إلى مهمة نبوية بهكذا طريقة؟
قرأت من مدة أن علماء الأحياء مجمعون على أن الزمرة البيولوجية المسماة ب"السمك" غير موجودة. لا وجود لمجموعة كائنات متمايزة عن غيرها ومنسجمة فيما بينها اسمها السمك، قرابة الأسماك ببعضها تشبه قرابتنا بالليمور وآكل النمل والطحالب الخضراء المزرقة. السمك خدعة لغوية. وعليه فالتقدم في علم الأحياء تطلب مهمة لغوية. كل تغيير في هذا العالم هو مهمة لغوية بالأساس. كل اكتشاف، كل ثورة، كل خداع، كل مجزرة، تنبثق عن لغة ما.
في الصباحات أنا في مواجهة لغة المرضى بقاموسها الخرافي وارتباطاتها المحيرة ونتائجها المؤسفة. في المساءات أشاهد غلالة من لغة شيطانية وهي تسمح للتاريخ أن يكرر مآسيه. في كتب التاريخ تبدو البوسترز الترويجية لجرائم السوڤييت، وأحلام النازي، ومانشيتات الجرائد المصرية التي خدمت المبعوث البريطاني، تبدو أثرًا بعد عين. أمور من المستحيل تكرارها لأننا لسنا عميانًا ولا مغفلين. لكن هل كان من سبقونا كذلك؟ أم أن في الإنسان ضعف فطري وميل للوقوع في فخاخ اللغة. في الفرق الطفيف بين "مات" و"قتل". بين "حرب" و"استعمار". في التعامل مع التاريخ كأنه بدأ توًا، في اللحظة التي حاول فيها الشهيد باتريس لومومبا تخليص بلاده من المستعمر البلجيكي بقوة السلاح فأصبح إرهابيًا، أما الخط الذي يسبق ذلك ممتدًا حتى تأسيس مدينة ليوبلدڤيل بالدم والعرق، حتى حقول المطاط التي تساقط فيها أهل الأرض وهلكوا كالذباب؛ فممحو تمامًا .ما الذي جعله إرهابيًا سوى أنه اتهم ملك بلچيكا بالكذب يوم أن قال الأخير أن بلاده أنعمت على من احتلتهم؟
في الصباح وفي المساء أريد أن أفند اللغة. هي شغل يومي. هي شغل الأنبياء الذين أحالوا كل من قادهم الوهم إلى الأسماء. "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم". وهي أكثر الأعمال مشقة، لأن تجريد الكذبة من طبقات اللغة الفاسدة قد يصيبك بالجنون. وقد يصيب صاحب الكذبة كذلك بالجنون والسعار. لكنها حرب ضرورية، ميراث الأنبياء حملة الحقيقة، وكل ما أريده هو أن أكون من جندياتها.
48 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 5 months
Text
أضواء عالية من الرعاية الأساسية:
-أعرف أن للطبيب/ة هالة توحي بمعرفته الأشياء كلها، وبحيازته العلوم والفنون كافة؛ نحن شامانات المجتمع الصناعي. وعليه فأنا أقضي سحابة يومي في عيادة طب الأسرة محاولة شرح الفرق بين التخصصات وأن الطب تجاوز طفولته القروسطية حيث كان الطبيب الواحد يعالج كافة الأمراض من القيح حتى الطاعون، بل وباستخدام كيمياء ثابتة لا تتغير لأن معندوش غيرها. لا أفلح في ذلك. يتجاوز المرضى ذلك بطلب أن أكتب أي حاجة وخلاص لأني دكتورة برضه، أو التساؤل الذاهل عن سبب رفضي إجراء العمليات الجراحية وجلسات الغسيل الكلوي في الوحدة الصحية لأن معلوماتنا أنك دكتورة ولا أنت شهادتك مضروبة ولا حكايتك إيه.
يتبرم المرضى مني لأني لا ألقط اسم أدويتهم من تفاصيل مثل: علبته صفراء، عليه راجل قالع، مكتوب عليه ارتجاع المريخ، ريحته زي حجر القص. أرى اتهامات الغباء في أعينهم. وصل ذلك لذروته اليوم بأم لطيفة تخبرني أنها تعطي لابنتها حقن التطويل والتقوية، وترغب في تكرارها. لا تعرف اسمها ولا شكلها، لا تعرف مين البهيم/ة اللي كتبها لها، لا تعرف أي شئ، ثم حين أخبرتها أن الموضوع خرج من أيدي جأرت وصرخت مفجوعة من وجود طبيبة لا تعرف معلومة حقيرة كتلك، تشاجرنا ساعة من نهار، وتضاربنا، ثم تصافينا وعدنا للبيت مسرورين ومش عارفين اسم حقنة التطويل والتقوية برضه.
-تعلمك الممارسة الطبية أن تنورمالايز. كل الأشياء سواء، لم أعد أشعر بالقرف ولا بالجزع من السوائل الجسدية ولا من الألم البشري مهما كان رهيبًا. كذلك تعتاد أحوال اجتماعية عجيبة، جوزي فتح لي دماغي، أخويا إداني بالساطور في بطني وعملت استكشاف مرتين، هذه أمور اعتدتها. لكني اليوم استرجعت الدهشة لأول مرة من فترة لما بسأل ست إذا كان زوجها مدخنًا، فأجابت أن نعم، ولما هممت باقتراح أن يدخن الزوج في أي قهوة ولا مصيبة بعيد عن المنزل والأطفال، طمأنتني السيدة بأن لا أقلق لأن الزوج إذا شرع في التدخين طردهم من المنزل - أي الأم والأولاد- للشارع قليلًا. شعرت في كلامها برغبة في أن أقدر حنان زوجها وحدبه المتراميين. دنيا الله عجيبة.
-تعلمت كذلك بعض مهارات المحققين. لا يستقيم أخذ التاريخ الطبي بدون بعض منها، إذا تقبلت كلام المريض/ة بدون مسائلة ومراوغة وكر وفر وثلاثيات وترقيص وكباري فقد حكمت على نفسك بالهلاك الشامل. كل أم تدخل برضيع في عمر الشهرين يعاني من الإسهال والحالة الخرائية وأسألها إذا كان يرضع فقط وتقسم أنه يرضع فقط، أعيد السؤال غير مرة، وفي المرة الرابعة تعترف أن ست الواد شربته بعض الملوخية لأنها كانت لذيذة، وعمة الواد حشرته بصباع كرمب يوم العيد. وتتعرى الحقيقة.
كنت أستغرب من كتاب علم الأدوية الذي كان يعدد أسباب عدم فعالية الدواء، ويخبرك أن السبب الأول أن المريض ربما لا يا يتناول الدواء. تعلمت أهمية تلك المعلومة بعد أن صرخ علي مئات ملايين المرضى بسبب عدم تحسنهم على الدواء الذي لم يتعاطوا منه قرصًا لعينًا.
-تشرق الشمس من المشرق وتغرب من المغرب ويحتاج كل كائن حي للطعام ليقوم بالتمثيل الغذائي. لكن من الخطير أن تتصور أن البديهيات بالنسبة إليك هي كذلك لغيرك. هل هي هوة يخلقها التفكير الطبي بين الطبيب وبين مريضه؟ قرأت مرة أن التعليم أمر عسير لأن المعلم ما أن يتعلم ينسى تمامًا كيف كانت عقليته وهو تلميذ ذليل، ويتعامل مع تلميذه بندية، ويتصور فيه علمًا ومهارة لم يحصلهما بعد.
أتساءل إن كان هذا هو السبب فيما أعانيه من ذهول لتجاوز المرضى لما أعده أمورًا بديهية. تأتي العمة برضيع عمره أسبوع والشكوى: الواد من يوم ما اتولد على صرخة واحدة. بتأمل بسيط للتاريخ المرضي وللرضيع الذي يبدو كخرقة بالية تعرف أن الطفل لم يلتقم ثديًا أو يشرب رضعة منذ أن خلقه الله. خالص. خالص. أصيح في الأهل أني أكاد أسامحهم على تعذيب الطفل بالتجويع، لكن ماذا عن تساؤلهم وفي عيونهم البراءة عن سبب صراخ الطفل؟ آر يو فوكينج فور ريل؟ ربنا ياخدني أنا يا جماعة.
تطلب منا الوزارة مؤخرًا ملء ملفات للمرضى مكتوب فيها تاريخ الأسرة المرضي، أسأل الأم إذا كانت هناك أمراض وراثية في الأسرة، ألح، أقاتل، أطالبها بالتذكر، تنكر، أسأل عن أمراض معينة بالاسم، تخبرني أن والد الطفلة يعاني من الضغط والسكر والهيموفيليا والطاعون والكساح والزحار، لكنها تطلقت منه والحمد لله، والآن البنت في أمان. نعم يا دكتورة كان لدى أمي وخالاتي تاريخًا من الأورام، لكنهن متن جميعًا، ليه مستغربة أني ما قلتش، لقد غادرتهن الدنيا كما غادرن الدنيا. أينعم كان لدى أبي رحمه الله مرض وراثي محمول على چين سائد، بس عيب كدكتورة محترمة يعني تجيبي في سيرة الموتى. دنيا الله عجيبة.
19 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 11 months
Text
قطط الوحدة الصحية
منذ أن بدأت الأيام الرتيبة في الرعاية الأساسية وأنا أتذكر القطط. أقول أن البشر الذين أتعامل معهم يذكرونني بالقطط. في الوحدة الصحية قطة سوداء هزيلة. تتحرك ببراعة وسط زحام الأرجل وتتقفى آثار بواقي الطعام. تحوم بمكر ودهاء حول الطفل الذي يتناول إفطاره والعاملة التي تتناول غدائها. تأكل كل مرة كأنها مرتها الأخيرة، يحفزها الخوف من الموت جوعًا في كل لحظة من حياتها، الخوف البدائي سيد لحظاتها وحاكم حركاتها المثيرة للشفقة. تخطف قطعة من الشطيرة ثم تهرب كلمح بالبصر، مع أنك مديها البتاعة عن طيب خاطر، لكنها في حالة صيد وصراع على البقاء لا ينتهي.
في خضم العيادة أتذكر هذه القطة. نموذج الرعاية الصحية الذي أنا جزء منه يشبه يومًا في حياتها، تأتي المريضة مستغلة سعر التذكرة المعدوم ومجانية تشكيلة معينة من الأدوية وتطلب مني أن أكتب لها أي علاج. لمين؟ لمحمود ابني. طيب هو فين؟ بايت عند خالته. طيب هو فين، ما جبتيهوش أشوفه ليه؟ لا ما هو كويس. أيوة يعني عايزة العلاج ليه؟ حيرني هذا التصرف ردحًا. لكن هذه السيدة لا تأمن الزمن القريب، أو لا تؤمن به، تمامًا كالقطة. ربما ينفد الدواء أو تنتهي مجانية الرعاية الأساسية، ربما يمرض محمود مرضًا شديدًا وتتداعى الأشياء وتسوء أكثر ما هي سيئة. يدفعها خوف أولي وبسيط، وعدم ثقة في الزمان منبعها قلة الموارد التي تقشر الحضارة الهشة عن الإنسان طبقة بعد طبقة.
خارج العيادة تذرع القطة جيئة وذهابًا. تتشاجر مع قطة أخرى مشمشية على هذا المكان الاستراتيجي. أترك الفحص مرات وأقوم لفض مشاجرات بين الأمهات المصطفات، يتزاحمن على الباب وينحشرن في حلق الغرفة الصغيرة ويصبنني بالجنون. كل واحدة تريد الظفر بالكشف والعلاج والهرب. كل واحدة تتربص بأختها لئلا تسرق ما قدر لها. جماعة قططية صغيرة.
بعد انتهاء العيادة ونفاد التذاكر، أقضى النصف الساعة الأخيرة في تأمل العالم والتقاط الأنفاس. ألاحظ سيدة أو اثنتين، يعبرن مرة بعد المرة أمام الباب المفتوح، يلمحنني بطرف أعينهن بسرعة الصياد الماهر، أربع مرات، خمس مرات؛ إلى أن يقررن الدخول والانفراد بي. اكتبي لي أي حاجة على أي تذكرة فاضية، يجف ريقي بينما أحاول الإيضاح: طيب تعالي بكرة واقطعي تذكرة بكرة وأنا هتنيل هاجي بكرة. لا يفلح ذلك مطلقًا ويؤدي لنفاد صبري. كأن العالم سينتهي غدًا، إلحاد تام بفكرة مجئ الغد، وحتى لو جاء؛ لن يحمل إلا الغدر وليس الاحتماليات والإمكانيات. تارة أفكر أنهم يتكاسلون عن الالتزام بواجباتهم المعلقة بخط عريض على باب المركز: احترام الدور ونظام المكان. وتارة أخرى أقول لو أن هذه أو تلك تعرف أنها في أي وقت مرضت أو مرض أبناؤها فستتلقفها شبكة من الأمان العلاجي، هل كانت لتشغل نفسها بهذا القدر بتذكرة الرعاية الأساسية وأدويتها المحدودة؟
يرد انعدام الأمان الإنسان/ة إلى نموذج بيولوچي لا يؤمن بالزمن، ويهلع من تعاقب الليل والنهار، ويمضي كل يوم في الصيد والترقب والنجاة، وفي الليل يرتاح ليستكمل ذلك في غد لا يثق به. كيف يستقيم أي بناء لعين لحياة ذات قيمة مع كل هذا القلق؟
51 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 9 months
Text
حلم ليلة صيف
أؤمن أن القصص سابقة على العالم بصورة ما. أن الحياة تحاكي الروايات وتقلد قصصنا عن الحياة. أو ربما انفعال البشر بالأشياء واحد، وعليه فللكتابة معنى، لأن الواحد/ة يكتب قصته ويذوي ويتحلل لكن يقرأها غيره ويقول: "هذا هو ما أشعر به بالظبط". المهم أنني هذه الأيام صارت تنتابني مشاعر روائية، أو مشاعر قرأتها أولًا قبل أن أختبرها الآن، أو فهمتها أولًا قبل أن أنفعل بها.
تذكرني هذه الأيام التي نعيشها، والتي لا تخطر على بال أي حيوان، بمطالع روايات عن مدن تقدحها الحرارة، وتخنقها الرطوبة، وتتعفن فيها الأشياء: حبات الفاكهة وجيف الحيوانات وجذوع الأشجار -عبد الرحمن منيف وهشام مطر وصبري موسى والعالم دهين-. يسير الرواي العليم في شوارعها ويدرك أن البشر يتعفنون أيضًا. مجاز واضح و"على الأنف مباشرة" كما يقال؛ لكني بينما أتقلب في شوارع القاهرة الملتهبة أشعر أن للحر معنىً آخر، وكيان مادي يمكن أن تلمسه في الهواء، وأنه لا يضايقني في ذاته، لكن يضايقني شعور آخر: الاختناق. كأن حالة الطقس وافقت أحوال العيش، وصار الأمر أكثر وضوحًا وعنفًا وسخرية. وتتحول إلى إنسان ما قبل تاريخي لعين، يظن أحوال السماء والجو موافقة لما يدور في دماغه المفعمة بالأساطير: السماء تبكي بالسحب لموت مليكه، والأرض تغضب بالبراكين لعدم الثأر من قاتل أخيه، والعالم يغلي ويختنق بالحر والرطوبة لأنك لا تستطيع تدبير حياتك الباسيتيك وسط طوفان الرداءة.
ومنذ ابتلعتني ماكينة البيروقراطية الرهيبة وأنا أفكر أني أريد شيئًا حقيقيًا. وأتذكر مراهقتي التي قرأت فيها غير رواية فيها بطل/ة يصيح مثل الأرعن بأنه يريد الأشياء الحقيقية ويكره الزيف وتقتله المثالية بجلطة. شعرت بالأفورة وبفراغ حياة تلك الشخصية وبأن ليس لديها حاجة محترمة تعملها. آمنت بأن العالم ملآن بأشياء حقيقية، وبمساع حقيقية كذلك. وهذه حقيقة. لكن ألعاب الظل وطواحين الهواء أكثر عددًا. تصيبك الدهشة حين تدرك أن مؤسسات كاملة قائمة على صورة منتال في دماغها. رجال ونساء ذوي مهابة واحترام عملهم هو التظاهر بالعمل. أمر مذهل ومحرج لهم بصراحة. هؤلاء الأشخاص -رغم كيانهم المادي المتحقق- أقل حقيقية من بطل متخيل في رواية يزعجه زيف الأشياء وعفن الأشخاص ثم يموت بالسل في سن العشرين.
ولطالما فكرت أن الناس في كتب التاريخ، أقصد العوام بشكل خاص، لا يدركون أبدًا أنهم يشهدون لحظة من التاريخ. وأن الواحد/ة يغفل لحد كبير عن أن تراكم اليومي هو حدوث التاريخ. وأقول ماذا لو أمعنت في الانتباه، هل سأقدر على إشحاذ البصر ورؤية كيف ينقلنا ما يحدث من حال لحال ومن مرحلة لأخرى؟ تذكرني الأجواء التي أخوضها يوميًا، والأحاديث التي أسمعها، بكتب عن نشأة الفاشية. تنشأ في مدينة صغيرة لا يرغب سكانها مشاركة العيش والأعمال مع أحد. أحيانًا أفكر أن بهرجة المصطلحات وهول التاريخ لا يصف إلا تراكم أحداث تافهة وكراهيات صغيرة. وعليه فحتى أنا الفرد الذليل العويل قادرة على رؤيته في نسيج اليوم.
المهم أني أعيد قراءة ما كتبته من أفكاري وأكتشف أني مش فاهمة شوية أنا بقول إيه، وهذا أيضًا يحدث لأبطال وبطلات الروايات قبل إصابتهم بالجنون الشامل بتاع نجيب محفوظ. أو ربما هو تأثير الحر. مرة قرأت أن الأوروبيين اعتقدوا أن الحر الشديد هو سبب بلادة الشعوب الشرقية؛ إذ كيف يتسنى للواحد/ة اجتراح الأفكار العظيمة وهو حران وعرقان؟ وهو أمر أتفق معه وأعتذر عن هذا لابن خلدون.
31 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 11 months
Text
ربما تكمن المشكلة في افتراضك أن العالم سيثبت لك الأشياء. سيتجاوز عن هفواتك ويمنعها من التحول لأخطاء كارثية تشبه التنانين الرهيبة، سيشير بطريقة خافتة إلى الطريق الذي ينبغي عليك أن تسلكه؛ ذلك الذي يؤدي إلى حياة عظيمة و قيّمة، وسيركل الأصدقاء المناسبين والأحباب من الحياة الواسعة إلى محيطك الضيق في الوقت المناسب.
لكن العالم ليس أبًا. لا يقوم على أمرك، بل ولديه موهبة في أن يبدو أنه يقوم على أمور كل الناس ما عداك. ومع ذلك يتحلى الواحد/ة بالإيمان. أنه إذا لم تحدث اليوم فبكرة. هكذا نبتلع الأيام، هذه هي الإجابة عن سؤال: أين تذهب الأيام التي لا نشعر بها؟
في المراهقة ومطلع الشباب تبدو أعمالًا مثل الإيمان والصمود أعمالًا أسطورية براقة، وصفات جديرة بالأبطال والبطلات. لكن تحت البريق حقيقة باهتة، الصمود ليس مصارعًا رومانيًا يقارع ويغلب، بل هو كلب رث يتحمل غبار ووسخ الشارع في بحثه عن الطعام. الإيمان لا يستقر في القلب ويسكِنه، الإيمان عمل مثير للجنون، تخيل أن تؤمن بإمكانية عالم بخلاف ذلك العالم كل يوم كل يوم كل يوم، حتى إذا تغير؛ تغير للأسوأ. الإيمان خارطة طريق ما إن فكرت فيها ضاق صدرك ولا ينطلق لسانك.
حتى الطمأنينة: ليست شيخًا بلحية بيضاء يقرأ في سره، إنها إدراك أنك -في معظم الأمور- عاجز تمامًا، فتقنع بمحاولاتك الحقيرة، ولا تجزع للنتيجة الأحقر. قرأت مرة قصيدة صغيرة تقول فيها الشاعرة أنها آمنت زمان أن العالم مدور، ومكوناته كلها مدورة، ناعمة الحواف، لكنها أدركت أن العالم مربع ومكوناته مربعة؛ كلما مشت وخزتها زواياه القائمة وجرحتها وبهدلتها. هذه هي خلاصة كلامي فوق في شكل ملخص لقصيدة ساذجة.
37 notes · View notes
artemisthehuntress95 · 9 months
Text
أسباب لتعلم اللغات القبلية الأسترالية
تتميز لغة الكووك ثايروي، وهي واحدة من لغات شعب البامان الأسترالي- بأنها مؤسسة تمامًا على الاتجاهات. تحتوي اللغة على ست عشرة كلمة لوصف كافة الاتجاهات، ولا تخلو بنية أي جملة ينطقها شعب البامان من واحدة من هذه الكلمات، أقول أنهم لا يستطيعون الحديث عن شجرة إلا بإضافة موقع الشجرة منهم في الجملة، حتى لو كانوا يريدون إخبارك بأنهم سيريدون قطع الشجرة طبقًا للتوجيهات غمزة غمزة. يقول المواطن الباماني: "سأقوم بقطع الشجرة الشمال شرقية مني وأنا واقف قبالة النهر". وهكذا. المهم أن شعب البامان لديهم قدرة شديدة الإبهار على تحديد الاتجاهات، وفي أي لحظة، يعرف الواحد/ة منهم موقعه من العالم، وموقع العالم منه.
تذكرت ذلك بعد أن تم انتدابي لوحدة أبعد، وطريقها أكثر تعقيدًا. مفيش مرة أذهب إليها من شارع وأعود من نفس الشارع، بل مفيش مرة أسلك أي طريق إليها أو منها بدون أن أتوه وأسأل الغادي والرائح والسائح. ولا يساعدني أن الشوارع كلها شبه بعضها وتقريبًا متسمية على أسماء سكان المنطقة: شارع فارس، شارع طنطاوي، شارع فخري. وكلما ابتعدت عن الشوارع الرئيسية؛ دخلت في شوارع لم تتغير منذ الثمانينيات، بواجهات محلات عتيقة ومكتوبة بخط اليد، وشعرت بالضياع الشامل. نصحتني امرأة صالحة أن أجعل من "مكتبة طه" بوصلتي في هذه المنطقة، وأن أنحرف يمينًا إذا ما ثقفتها، وأقسم أني فعلت ذلك ومشيت في شارع لآجد في آخره، خمن ماذا، مكتبة طه تاني. والله. تذكرت شعب البامان في تلك الأوقات القلقة، وتمنيت قدرتهم الفطرية على معرفة المواقع والاتجاهات، لأن ما ألذ أن تنشأ على تعلم شئ بالحدس والتطبع حتى تتحول إلى جهاز ملاحة بشري.
وتذكرت أيضًا غرف العمليات، وأنا منكبة على الفيلد أحاول تبيان أي حاجة، وأسأل المدرس كلما أشار إلى structure: وحضرتك عرفت منين أن ده كذا؟ فينبهني لعلامات واضحة في التشريح البشري، كأنها لافتات، تخبره أين هو كي لا يضل في المناطق الأقل وضوحًا، أو ينسى. يخبرني أنه يمسك تلك البطانة الدهنية الطرية مثلًا؛ فيدرك أنه وصل للموقع الصحيح.
بل تذكرت كذلك المريض الذي أتى لغرفة الطوارئ في أحد المساءات يشكو من أحد مضاعفات الإدمان الوريدي، ولا أنساه وهو يشرح لي بدقة مهيبة التشريح الوعائي للطرف السفلي بدءًا من القدم وحتى أوردة الحوض الداخلية التي يحلم بها الجراحون في مناماتهم. كأنه نيتر المصري.
ذلك أنني أفكر كثيرًا في المعرفة المكتسبة بالحدس والتجربة، والمعرفة المكتسبة بالإرشاد والمنهجية، وعن أنهما قد ينتهيا بك لنفس النتيجة. وعن أن اجتماع تلك الحساسية الفطرية مع التعليم الممنهج هو الذي يصنع الإنسان/ة الحريف. وأقول طيب ولو لم تتوفر تلك الحساسية المراوغة؟ ماذا بعد؟ هضيع للأبد بسبب قدر لا يد لي فيه؟ مش هبقى حريفة؟ حسبي الله ونعم الوكيل.
تصورت فتاةً بامانية تعينت لسبب ما في نفس وحدتي الصحية، وعليها أن تقطع نفس الشوارع المضلة. فكرت أنها ستقطعها كلمح بالبصر، كشهاب، كلمع البرق، ستصل حتى قبل موظفة الإمضاء. فكرت أنها ستتمكن من تلك المهمة المستحيلة بسبب نشأتها في نظام دلالي وثقافي لا يتيح لها مهربًا من معرفة الاتجاه، ويزودها بأدوات إشارة تتيح لها إذا نامت على الأرض وأغضمت عينيها أن تعرف أن رأسها مواجه للجنوب الشرقي، حتى ولو لم تكن الشمس موجودة. وأنها حريفة لهذا السبب؛ لأنها تعلمت منذ أن كانت طفلة في القماط.
أشعرني ذلك ببعض الرضا. وخرجت أخيرًا من المتاهة الأريادنية التي كنت فيها، ووصلت لأعتاب شارع فيصل، تقريبًا في سبعين ضعف الوقت اللي كانت هتستغرقه الفتاة البامانية. لكنني لم أجزع لذلك لأنني أتحدث العربية وليس لغة الكووك ثايروي السحرية. وبإمكاني إذا ما تعلمتها أن أحقق نفس القدرات الملاحية، كل شئ ممكن كسبه بالتعلم، ولا توجد أقدار نهائية، وأتمنى من أحد متحدثي أو متحدثات الكووك ثايوري طمأنتي بشأن هذا الأمر، ووضع أحببته في جنوب غرب المنشور.
16 notes · View notes