الإسلام يقدّم أعمق تصور لطبيعة الانسان و حقيقته التي عجزت عن معرفتها معظم الأفكار و النظريات الوضعية التي أخضعت الإنسان لمختلف الحتميات الأرضية كحتمية التاريخ أو الاقتصاد أو الجنس أو الغريزة أو غيرها من الماديات، و مثلها في التطرف تلك النظريات و التصورات التي ألّهت الإنسان حين أطلقت حريته إلى غير حدّ و فوّضت إليه أمر الكون دون قيد أو شرط.
إن جميع هذه التصورات تعدّ خاطئة في فهمها لحقيقة الإنسان لما تنطوي عليه من تطرف و انحياز إلى جانب منه دون آخر، و يتفرد الإسلام بفهمه الواقعي العميق لتلك الحقيقة التي يستوحيها التصور الإسلامي في تصوير الإنسان، فهو ليس إلهاً و لا راغباً في أن يكون إلهاً أو شِبه إله، و هو من جهة اخرى ليس كمية سالبة تتحكم فيها قوى الاقتصاد و المادة و مختلف الجبريات الأرضية، و هو كذلك مخلوق ليس بالملاك و لا بالشيطان، و إنما هو إنسان مشتمل على قدرات و طاقات ترفعه إلى أعلى حين يعرفها و يحسن استخدامها و لكنه مشتمل كذلك على منافذ للضعف و منافذ للغزو ينفذ منها عدوه الأصيل (الشيطان)، و الإنسان يصور في لحظة القوة و لحظة الضعف، يُهْتَفُ له دائماً من جانب الصعود، و جانب الهبوط موجود من نفسه يحتاج إلى الوعي به، و لحظة الضعف تحتاج إلى تسجيل لكونها دافع قوي يؤدي إلى كشف و إظهار و تحريك مكامن القوة في شخصية الإنسان متمثلة في تصويره متوازناً بانطلاق كل طاقة من طاقاته في حدودها الخاصة، و توازن قواه المتفاعلة في كيانه: لأن التوازن هو الاعتدال الذي قامت به السماوات و الأرض.
الإنسان مجبول على الضعف
أصل خَلْق الإنسان أنه ضعيف، فالطبيعة البشرية مجبولة على الضعف و الوهن، فمهما علت النفوس و تكبَّرت، فهي في حقيقتها ضعيفة، و لا تقوى إلا على ما يناسبها.
قال الله جل و علا: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم-54].
و قوله تعالى: { وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء-28].
و حقا ما قال ربنا سبحانه و تعالى: { وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }،
و قد ذكر ابن الجوزي رحمه الله ثلاثة أقوال في الآية فقال: ” في المراد بـ ( ضعْف الإنسان ) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة، قال الحسن: هو أنه خُلق من ماءٍ مهين .
و الثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاووس، و مقاتل.
و الثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، و هذا قول الزجّاج، و ابن كيسان ".
و يقول ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر بعض أقوال السلف في تفسير الآية: ” و الصواب أَن ضعفه يعم هذا كله، و ضعفه أَعظم من هذا و أَكثر: فَإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، و الآفات إليه مع هذا الضعف أَسرع من السيل في الحدور” (طريق الهجرتين).
و يقول العلامة السعدي رحمه الله : " ضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، و ضعف الإرادة، و ضعف العزيمة، و ضعف الإيمان، و ضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ما يضعف عنه و ما لا يطيقه إيمانه و صبره و قوته ” (تيسير الكريم الرحمن).
نعم خلق الإنسان ضعيفا، فهو ضعيف في تصرفه و إدراكه، قد يتصور البعيد قريبا و القريب بعيدا، و النافع ضارا و الضار نافعا، و لا يدرك النتائج التي تتمخض عن تصرفاته.
فالضعف الإنساني سمة تلازم الإنسان من لحظة البداية في خلقه. فهل تَذكَّر الإنسان ذلك؟ و هل فكر الإنسان في أصل تكوينه؟ إنه تراب الأرض، و هل أدرك الإنسان أنه خُلق من عدم و لم يكن شيئاً؟ و هل فكر الإنسان بالقدرة التي أوجدته من العدم و كَّونته من التراب ؟
و هل فكر الإنسان لحظة و استشعر مراحل ضعفه و وهنه؟
إن الإنسان هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة، و هذا الإنسان الذي يبدو للوهلة الأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد، إنه يبدو قوياً مخيفاً مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته ضعفاً لا يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة و العزة و السطوة.
و يزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله و مشاعره، حيث يجد الانسان نفسه عاجزاً عن دفع مشاعره و الخلاص من وساوسه، و التغلب على مخاوفه، أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان، ليدرك الانسان في كل لحظة أنه مع طموحه إلى السيادة و السيطرة على الأرض و غزو الفضاء، فهو عاجز عن السيطرة على نفسه!
فالإنسان ضعيفٌ بكل ما تعنيه كلمة الضَّعفِ، و هذا الضَّعفُ هو ما جعله أهلاً لحمل صفتينِ مُلازمتين له و هما الظلمُ و الجَهل { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } [الأحزاب-72].
صفة الضعف التي تلازم الإنسان طوال حياته هى السمة المميزة له في مقتبل العمر و فى خريف حياته.
و سبحان الله الخالق العظيم، فقد جعل مشوار حياة الإنسان يبدأ بالضعف، و ينتهي به، حتى و إن كان في ريعان شبابه و قمة عنفوانه، فهو ضعيف.
إنَّ ضعفَ الإنسان عامٌّ، و يشملُ الطبائعَ الخَلْقيّةَ، يولدُ الإنسان ضعيفًا صغيرًا باكيًّا، لا يستطيعُ أن يؤمِّن قوتَ يومِه، لكنّ عودَه يشتدُّ حين يكبُر، ثمَّ يُرَدُّ إلى ضعفِه في أرذل العُمُر، و يشمَلُ الطبائع الخُلُقيّة، فالإنسان ضعيفٌ أمامَ الشهواتِ و المُغرِياتِ فهذا نبيّ الله آدمُ و زوجتُه حواء أكلا من الشجرةِ التي نهاهُما عنها اللهُ، مع أن��َهما كانا في الجنَّةِ، لكنَّ نفسَهما ضَعفَت أمام وساوس الشيطان، فإذا عَلِم المرءُ أنَّ الإنسان ضعيفٌ بطبعه، سعى إلى تقوية نفسه، و لأنَّ الإنسان في خُسرانٍ منذُ لحظةِ ولادته فإنَّ ساعةَ موته تقترب، فعندما يوقن المرء بذلكَ، ينصحَ نفسَه و من يلوذ به بالبِدار، لأنّه كما قال الشاعر أبو العتاهيّة:
بين عينيّ كلِّ حيٍّ
عَلَمُ الموت يلوحُ
و نرى الانسان ضعيفا أمام دوافع النوم (الموتة الصغرى)، فلا غلبة له عليه، يطرحه النوم أرضاً، حتى و إن كانت قوته تصارع و تقهر العتاة من البشر.
و المرض، في أوهن أشكاله و مسبباته، يقهر الإنسان و يوهن صحته، و يحد من نشاطه، و قد ينال من جسده و يضعف من قوته، فيصبح الانسان عاجزاً لا يقوى على رعاية نفسه؟
و الإنسان ضعيف بالخوف من المجهول و الموت، فالخوف واقع فطري موروث قائم في التكوين النفس للإنسان، قال الإمام الغزالي: " الخوف عبارة عن تألم القلب و احتراقه بسبب توقع المكروه في الإستقبال ".
و الإنسان ضعيف حين يصيبه اليأس و الإحباط، حيث يصبح يائساً و يملأ قلبه الإحباط و القلق عندما يمسه الشر، و تتلاشى ثقته برحمة الله، و ما يدلّ على ذلك قوله تعالى: { وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأَى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً } [الإسراء-83].
ضعف الإنسان أمام الذباب
و من بليغ تعاليم القرآن و تربيته للإنسان، ذلك المثل الذى ضربه الله لبيان ضعف الإنسان مهما كان قويا، ذلك المثل الوارد فى خواتيم سورة الحج { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابا وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ } [الحج-73].
هكذا يرى القوي نفسه ضعيفا أمام الذباب، صورة تتكرر كثيرا سواء مع الذباب أو البعوض... إلخ. فإذا كنت أيها الإنسان لقمة سائغة للذباب، فلماذا التجبر على ضعفاء البشر؟ و لماذا هذا الكبر غير المبرر؟ و قد حدث أن أحد الأمراء طلب حضور الإمام مالك رحمه الله إلى قصره ليستفتيه فى مسألة، و كان مالك لا يدخل بيوت الأمراء، فبعث بأحد تلاميذه و هو الشافعي رحمه الله، و كان صغير السن، و رأى الأمير أن حضور ذلك الصبى إهانة له، فأراد الأمير تحقير الصغير و إشغاله بمعضلة علمية ظاهرها السهولة، فقال الأمير للشافعي: قبل أن أسألك عن مسألة الميراث، قل لي أولا لماذا خلق الله الذباب؟ و أدرك الصبى تكبر الأمير و أنه بحاجة إلى درس ينجيه من غروره.
فأجاب الصبي: خلق الله الذباب لإذلال المتكبرين، قال الأمير: كيف؟ فقال الصبي: إن الذباب يقف على القذر، ثم يقف على وجه الآدمي فلا يستطيع رده و لا استرداد ما أخذه من دمه؟ ضعف الطالب و المطلوب!
ضعف الرجل و ضعف المرأة
قال الله تعالى: { وَ خُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء-28]، إن هذه الآية تُبيِّن أن الإنسان مهما أوتي من قوة و عظمة يبقى ذلك الإنسان الضعيف، الذي تُذِلُّه أقل الشهوات و النزوات، و تُضعِفه أدنى المؤثرات و المغريات.
جاءت هذه الآية في سياق بيان ما حرَّمه الله و ما أحلَّه من نكاح النساء؛ فبعد أن بيَّن سبحانه ما حرَّمه من نكاح المحارِم، ندب سبحانه عباده إلى الزواج مما أحلَّه لهم من النساء، ثم أتبع سبحانه ذلك ببيان آخر، بين من خلاله ما فطر الله عليه الإنسان من ضعف.
و المنحى العام لأغلب المفسرين أن المراد بـالضعف ضعف الرجل أمام المرأة، و ضعف المرأة أيضًا أمام الرجل؛ إذ إن كلًا منهما فُطِرَ على الميل للآخر و الانجذاب إليه، فأراد الله سبحانه بعد بيانه ما حرَّمه من النساء و ما أحلَّه، أن يُنبِه كلًا من الرجل و المرأة إلى هذا الضعف الذي فُطِروا عليه، و أنه ينبغي لكل منهما أن لا ينساق مع هذا الضعف، بل عليه أن يضبطه بضوابط الشرع، و يُهذِّبه بحيث لا يكون سائقهما إلى ارتكاب ما حرَّم الله من الزنا و الفواحش.
و قد أقر ابن حزم في باب قبح المعصية بأن الرجل و المرأة في احتياج متساوٍ لقمع الشهوة على عكس الرأي الشائع في ذلك، إذ أورد حديث الرسول صلى الله عليه و سلم: من وقاه الله شر اثنتين دخل الجنة، فسُئِل عن ذلك فقال: ما بين لحييه (اللسان) و ما بين رجليه (الفرج) و علق قائلًا: «و إني لأسمع كثيًرا ممن يقول الوفاء في قمع الشهوات في الرجال دون النساء. فأُطيل العجب من ذلك، و إن لي قولاً لا أحول عنه: الرجال و النساء في الجنوح إلى هذين الشيئين سواء» (كتاب طوق الحمامة).
و سُبقت الآية الكريمة بآية تُفيد أن أصحاب الشهوات و النزوات يريدون من المؤمنين أن ينساقوا وراء شهواتهم، و يخضعوا لهذا الضعف الذي فطروا عليه، قال تعالى: { وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [النساء-27]، أي: أن تنحرِفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم و الضالين (موقع الإسلام).
و قد يحسب كثير من الناس أن التقيد بمنهج الله -و بخاصةٍ في علاقات الجنسين- شاق مجهد. و الانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات مُيسَّر مريح! و هذا وهمٌ كبير، و زلل خطير.. و ذلك أن إطلاق الشهوات من كل قيد؛ و تحرِّي اللذة وحدها في كل تصرُّف، و جعلها وحدها هي الحكم الأول و الأخير، و التجرُّد في علاقات الجنسين من كل التزام أخلاقي و اجتماعي... هذه كلها و إن كانت تبدو لصاحبها يُسرًا و راحةً و انطلاقًا، و لكنها في حقيقتها مشقة و جهد و بلاء. و نتائجها في حياة الفرد و المجتمع نتائج مؤذية مُدمِّرة ماحقة.
و النظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي "تحرَّرت!" من قيود الدين، و الأخلاق، و الحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب. و يكفي أيضًا لإطلاق صافرة الإنذار مُعلِنَة ما يحيق بهذه المجتمعات من خطر مُحدِق، و مُنذِرة بما سيؤول إليه مستقبل تلك المجتمعات من دمار مشؤوم.
أليس ما نرى و ما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي من كلام الغزل و الحب و العشق بين الجنسين، و كل ذلك يرافقه نشر صور البنات الجميلات متبرجات سافرات أو نشر صور لهن شبه عاريات و مرتميات في أحضان الفتيان! أليس هذا تعبير صارخ عن مدى ضعف أو انتكاس للفطرة، و قبح ما وصل إليه الفتيان و الفتيات أبناء و بنات الإسلام؟
ليست كل صاحبة وجه جميل جميلة، فالجمال لا تحكمه الملامح الخارجية للجسد و الشكل ما هو إلا إطار، أما الصورة الحقيقية فهي في أعماق و نفس و سلوك صاحبة الإطار. و الجمال المعروض في كل مكان هو جمال مزيف مغشوش جمال تجاري مصنوع؛ و ماذا يفيد هذا الشكل الجميل الممسوخ إن لم يكن لجمال الروح و جمال الخلق و الدين وجود ؟!
طبعا للحب مكانته و قدره في ديننا، فهو حقيقة إنسانية واقعة، بعيدًا عما أصابه من فكر خاطئ و فهم مغلوط، و رسولنا صلى الله عليه وسلم هو آية المحبين عندما قال عن خديجة رضي الله عنها: ( إني رزقت حبها ) [رواه مسلم]، لكن هذا الحب الذي اعترف به الإسلام، و جعل له قدره و شأنه، ليس هو ما نراه في مواقع التواصل الاجتماعي و الشوارع والمنتزهات و المقاهي و غيرها.
لقد تبدلت هذه العاطفة السامية، و صارت مرادفة لنداء الرغبة و الشهوة و الجنس الرخيص، و خرجت على حدود العلاقة التي قررها التشريع الإسلامي، و نظمها بين الرجل و المرأة في إطار الزواج.
إن الشيطان لا ييأس من غواية ابن آدم، ويتدرج معه حتى يصل به إلى الفاحشة العظمى، وللعشق مراحل كحلقات السلسلة بعضها ينقل إلى بعض. لهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
إن وقوع الفتى في عشق الفتاة و العكس، و ما يتبع ذلك من تجاوزات لا تأبه لخوف من الله تعالى أو رادع من ضمير، أو احترام لتقاليد و عادات المجتمع، له أسباب و دوافع عديدة يمكن إجمالها في:
1- الجهل بالدين.
2- قلة الحياء من الله سبحانه وتعالى.
3- غياب القدوة الصالحة عن الشباب.
4- سوء التربية و انشغال الأب و غفلة الأم، بعد أن صارت الأسرة -إلا نادرًا- مكانًا للتعليم فقط لا للتربية.
5- الصحبة الفاسدة: فللصحبة الصالحة آثار لا تنكر و للصداقة الفاسدة أضرار لا تخفى.
6- الفراغ القاتل: فإذا كان القلب فارغًا، فإنه يأمر الجوارح بكل خسيسة، و لذلك فإن شباب اليوم يعاني فراغًا عظيمًا على كل المستويات، فراغًا عقليا، و فراغًا قلبيا، و فراغًا نفسيا.
7- المثيرات الخارجية من أفلام و مسلسلات و أغان تشجع على الرذيلة، و تدفع للهيام، و التعلق بالمحبوب، و من تبرج للنساء و التعري الفاضح.
ففي دراسة أجريت على 500 فيلم تبين أن 72% منها يتحدث عن الحب و الجريمة و الجنس.
كما أظهرت دراسة أمريكية أن 29.6% من أفلام الأطفال تتحدث عن الحب بمفهومه الشهواني الخاطئ (موقع أقلام).
8- الاختلاط غير المنضبط و الثقة المبالغ فيها بين الفتى و الفتاة (و الاختلاط في العالم الافتراضي أسوء من اختلاط الواقع، لأنه عالم مخفي عن مراقبة أعين الناظرين، يحول نمنمات الكلمات و حنين الرغبات إلى أفعال و ممارسة للشهوات التي يتم نقلها إلى الواقع الفعلي).
و من الطبيعي أن يثمر الفهم المغلوط لعاطفة الحب بين الفتيان و الفتيات عواقب وخيمة تترك آثارها على الجميع، و منها:
- الصد عن الحق و النفور منه.
- ظلام القلب و سواده.
- دنو الغاية و حقارة الهدف.
- عذاب القلب و شغله بمن يحب، و ما في ذلك من صد عن ذكر الله.
- ضياع الوقت فيما لا يفيد.
- العمى عن العيوب.
- ضياع المال و تبديده فيما لا يحل.
- سخط الله، و غضبه لما فيه من معاداة أوامره، و ارتكاب نواهيه.
- تلويث السمعة و ضياع العرض بحلو الكلام، و جميل الحديث (موقع بصائر).
لماذا خلق الإنسان ضعيفا؟
الإنسان مخلوق أودع الله فيه من الطبائع و الغرائز ما يشده إلى طينيته التي هي مادة خلقه { وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون } [الحِجر-26]، و كرمه و شرفه بأن نفخ فيه من روحه: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [الحِجر-29] فكان فيه ذلك الجانب الروحي الذي يرتقي به و ينتشله من أوحال الطين، فيبلغ بذلك مرتبة يكون فيها أفضل من الملائكة على رأي الجمهور من العلماء، و المؤمن يدرك بأن عبوديته لله هي حقيقة وجوده لا انفكاك له منها في كل أطواره و أحواله، فإن كان في نعمة الطاعة: فمن صدق عبوديته أن يشكر الله على ما هو فيه و يراقب بواعث عمله و صدق نيته و إخلاصه، و إن كان في غير ذلك: قام على نفسه بتعهدها بالتوبة و الندم و حملها على ما يرضي الله و تعبد لله لينتقل من ضعف المعصية إلى قوة الطاعة، و من ظلام الشيطان إلى أنوار الرحمن.
الله جل جلاله خَلَقَ الإنسان ضعيفاً لأن سعادة الإنسان لا تكون إلا بالله عزَّ و جل، و ما خلَقه ضعيفاً إلا ليكون ضعفُه دافعاً له إلى باب الله، ليتَّصل به، ليلوذَ بحماه، ليقْبِل عليه، ليلجأ إليه، ليحتمي به. الضعف في الإنسان وسيلةٌ و ليس هدفاً، وسيلةٌ لدفعه إلى باب الله، وسيلةٌ لإقباله على الله، لو أن الإنسان خُلِقَ قوياً لاستغنى بقوته عن الله، فشقي باستغنائه عن الله، خلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه، و ليُقْبِل على الله عزَّ و جل، فيسعد بافتقاره إليه.
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ [المعارج: 19-22].
فالإنسان إذا عرف أنه ضعيف أقبل على الله فأصبح أقوى الأقوياء، إذا أراد أن يكون أقوى الناس فليتوكَّل على الله، و إن أراد أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يدي الله أوثق منه بما في يديه، و إذا أراد أن يكون أكرم الناس فليتقِ الله سبحانه و تعالى (موسوعة النابلسي).
كيف يقاوم الإنسان ضعفه؟
كيف يكون حال الأفراد الذين يقولون: عندنا معاصي لا نستطيع أن نفارقها، و شهوات واقعون فيها لا نستطيع أن نبارحها، و عندنا ضياع أوقات من مشكلاتنا و ندخل في مشاريع فلا نكمل، و تنقطع بنا السبل، و نعيش في فوضى، و حياتنا ليست مرتبة على حسب الشريعة؟
لا شك أن علاج كل هذه المشكلات، و علاج قضية عدم الجدية في الالتزام بالإسلام من هذه الأوقات الضائعة، و الالتزام الناقص، و مظاهر نقص الاستقامة، لا شك أنها لا تعالج إلا بإرادة قوية و همة عالية.
و نحن نتلفت لعلاج أنفسنا إلى الأنبياء و الصحابة و التابعين و العلماء و الشهداء الذين قضوا نحبهم و هم مقيمون على طاعة الله، أولئك الذين أخبر الله تعالى عنهم بأنهم: { صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب-23].
أولئك أصحاب الهمم العالية، و العزائم القوية، و الإرادات التي جعلت أصحابها في ذلك المستوى الإيماني المرتفع.
إن نبذ مسألة الضعف و العجز و الكسل و التحير و الاضطراب و التردد في حياتنا، و الإقدام على الأمور بالحزم و العزم. هذا المفهوم قد علمه لنا النبي ﷺ في حديث عظيم: عَنْ أبي هُريرةَ رضْيَ اللهُ عنه قالَ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه و سلَّمَ: ( المؤمنُ القويُّ خيرٌ و أحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ و في كلٍّ خيرٌ. إحْرِصْ على ما يَنفعُكَ، و اسْتَعنْ باللهِ و لا تَعجزْ. و إنَّ أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا و كذا، و لكن قُلْ: قدَرُ اللهِ و ما شاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ ) [رواه مسلم].
قال العلَّامةُ ابنُ عثيمين رحمه الله:
" المؤمن القوي: يعني في إيمانه، و ليس المراد القوي في بدنِه؛ لأن قوة البدن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله، فقوة البدن ليست محمودة و لا مذمومة في ذاتها، إن كان الإنس��ن استعمل هذه القوة فيما ينفعه في الدنيا و الآخرة صارت محمودة، و إن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومةً.
و قوله: خيرٌ يعني: خير من المؤمن الضعيف، و أحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، ثم قال عليه الصلاة و السلام: و في كُلٍّ خيرٌ ، يعني المؤمن القوي و المؤمن الضعيف كل منهما فيه خير. و إنما قال: و في كلٍّ خيرٌ؛ لئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه، بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شك.
ثم قال عليه الصلاة و السلام: إحرصْ على ما ينفعُك؛ هذه وصية من الرسول عليه الصلاة و السلام لأمته، و هي وصية جامعة مانعة احرصْ على ما ينفعُكَ يعني أجتهد في تحصيله و مباشرته، و ضد الذي ينفع الذي فيه ضرر، وما لا نفع فيه و لا ضرر، و ذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، و قسم يضره، و قسم لا ينفع و لا يضر.
فالإنسان العاقل الذي يقبل وصية النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي يحرص على ما ينفعه، و ما أكثر الذين يضيعون أوقاتهم اليوم في غير فائدة، بل في مضرة على أنفسهم و على دينهم، و على هذا فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه و سلم؛ إما جهلًا منكم و إما تهاونًا، لكن ��لمؤمن العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة، و يحرص على ما ينفعه في دينه و دنياه.
و في قوله: احرص على ما ينفعك؛ إشارة إلى أنه إذا تعارضت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها و زيادة.
و قوله عليه الصلاة و السلام: و استعن بالله: ما أروع هذه الكلمة بعد قوله: احرص على ما ينفعك؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلًا ذكيًّا فإنه يتتبع المنافع و يأخذ بالأنفع و يجتهد و يحرص، و ربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه و ينسى الاستعانة بالله، و هذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه و لا يذكر الله عزَّ و جلَّ و يستعين به، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال و حرصًا على النافع و فعلًا له، أعجب بنفسه و نسي الاستعانة بالله، و لهذا قال: احرصْ على ما ينفعك و استعنْ باللهِ، أي: لا تنس الاستعانة بالله و لو على الشيء اليسير، و في الحديث: «ليس��ل أحدكم ربَّه حاجتَه حتى يسأله الملح، و حتى يسأله شِسْعَ نعله إذا انقطع»، يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الاستعانة بالله عزَّ و جلَّ، حتى و لو أردت أن تتوضأ أو تصلى أو تذهب يمينًا أو شمالًا أو تضع شيئًا فاستحضر أنَّك مستعينٌ بالله عزَّ و جلَّ، و أنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء.
ثم قال: و لا تعجز ، يعني إستمر في العمل و لا تعجز، و تتأخر، و تقول: إن المدى طويل و الشغل كثير. فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك و استعنت بالله و شرعت فيه فلا تعجز.
ثم قال عليه الصلاة و السلام: فإنْ أصابك شيءٌ فلا تقلْ: لو أني فعلتُ لكان كذا و كذا؛ و يعني بعد أن تحرص و تبذل الجهد، و تستعين بالله، و تستمر، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا؛ لأن هذا أمر فوق إرادتك، أنت فعلت الذي تؤمر به، و لكن الله عزَّ و جلَّ غالب على أمره ﴿ وَ اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف-21].
و لهذا قال: و لكن قلْ: قدَرُ اللهِ؛ أي هذا قدَرُ اللهِ، أي تقدير الله و قضاؤه، و ما شاء الله عزَّ و جلَّ فعله ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [هود-107]، لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل عزَّ و جلَّ و لكن يجب أن نعلم أنه سبحانه و تعالى لا يفعل شيئًا إلا لحكمة خفيت علينا أو ظهرت لنا، و الدليل على هذا قوله تعالى: ﴿ وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان-30]، فبيَّن أن مشيئته مقرونة بالحكمة و العلم، و كم من شيءٍ كره الإنسان وقوعه، فصار في العاقبة خيرًا له، كما قال تعالى:﴿ وَ عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة- 216].
و الله، لو أننا سرنا على هدي هذا الحديث الشريف لاسترحنا كثيرًا، لكن تجد الإنسان منا:
أولًا: لا يحرص على ما ينفعه، بل تمضي أوقاته ليلًا و نهارًا بدون فائدة، تضيع عليه سدى.
ثانيًا: إذا قدر أنه اجتهد في أمر ينفعه، ثم فات الأمر، و لم يكن على ما توقع، تجده يندم، و يقول: ليتني ما فعلت كذا، و لو أني فعلت كذا لكان كذا، و هذا ليس بصحيح. فأنت أدّ ما عليك، ثم بعد هذا فوض الأمر لله عزَّ و جلَّ " (شرح رياض الصالحين/بتصرف).
51 notes
·
View notes