لَقَد تابَ عَلى يَدي في مَجالسِ الذِّكرِ أكثرَ من مائتي ألف. وأسلمَ على يَدي أكثرَ من مِائَتَي نَفْسٍ. وَكم سالت عينُ مُتَجَبِّرٍ بِوعظي لَم تكن تسيل. وَلَقَد جَلستُ يَوماً فرأيت حولي أكثرَ من عَشرةِ آلاف. ما فيهم إلا مَنْ قَد رَقَّ قَلبُه، أو دَمَعَت عَينُهُ، فَ��لتُ لِنَفسي: كَيف بِكِ إن نَجَوا وَهَلَكْتِ؟ فَصحت بِلسان وُجدي:
إِلَهي وَسَيِّدي! إِن�� قَضَيْتَ عَليَّ بِالعَذابِ غَداً، فلا تُعلِمْهُم بِعذابي، صِيانةً لِكَرَمِكَ، لا لِأَجْلي، لِئَلّا يَقولوا عَذَّبَ مَن دَلَّ عَلَيْهِ.
(وما بكم من نعمةٍ فمن الله ثم إذا مسّكم الضُّر فإليه تجأرون)
فتكادُ تشهدُ كلّ خليةٍ في جسدي أنّك قد حففتَها بالإنعامِ والإكرام، وإنني أعترفُ اعترافًا لا يخالطه ترددٌ أنك قد تفضّلت علي ياربّي، وأغرقتني بالنّعمِ منذُ أن أوجدتني وحتى يومي هذا ، وأنا التي لا تستحقّ عليكَ شيئًا، ولستُ أهلًا لما خصصتني به ولكنّه كرمك الواسع الذي أحسّه يحيطني، والذي والله من شدّةِ اغتباطي به أرى أنّك لم تنعم على أحدٍ من أهلِ الأرض كما أنعمتَ عليّ!
أُقلّبُ سنينَ عُمري ؛ فأُشاهدُ الحرمانَ الذي مضى نعمة .. والفقدَ الذي مضى نعمة .. والألم الذي مضى نعمة .. والخوف الذي مضى نعمة .. ومشاعرَ كنتُ أكرهها وأحوالًا كنتُ أخشاها أنّها نِعَمٌ حفظتني بها وسلّمتني فيها من شرٍّ أجهلهُ ؛ وقلبي على يقينٍ كبير لمستُه في محطّاتٍ مختلفةٍ من حياتي : أنكَ لا تقضي لعبدكَ المؤمن قضاءً إلا كان [خيرًا له].
فاللهم ّ اجعلني ذلكَ المؤمن .. الذي يمتلئ قلبه بحبّك واستحضارِ نعمتك في حالِ سرّائهِ وضرائه ، الذي يصمدُ إليكِ في قضاءِ حوائجه فلا يطمئنّ ولا يهدأ حتى يدعوك ، ولا يرى أبدًا مهما فعل أنّه قد وفّى وشكرك ..
اجعلني ذلكَ المؤمن صاحبَ القلبِ الوَجِل الذي يخشى أن يُسلَب النّعمةَ بذنبهِ وبسبب تقصيرهِ في أداء حقّك يا عظيم ، والذي لا ينفكّ يرى أنّ الاهتداءَ إليكَ هو أجلّ النعم وأعلاها وإن آتيتَه حظًا وافرًا من دنياه؛ فاجعل هذا الحظّ مُعينًا على الطاعةِ والشكر ، لا على المعصيةِ والجحود ، واجعله سببًا في زيادةِ التعلّق بكَ ، لا سببًا في الافتتانِ بهِ عنك.